الفصل 0 – ما قبل النسيان
"قبل أن يُولد الظل الأخير، كانت هناك نار. وقبل أن تتكلم النار، كان هناك صمتٌ، حفظ فيه العالم أنفاسه الأخيرة."
هكذا تبدأ المخطوطة المحظورة التي عُثر عليها في أنقاض مكتبة "أورفال القديمة"، ملفوفة بجلدٍ أسود لا يُعرف أصله، ومكتوبة بحبرٍ لم يجف منذ ألف عام.
كانت صفحاتها مشبعة بالهمسات المقموعة، بأسرار لم يُكتب لها أن تُقال بصوت مسموع.
وبين سطورها، ظهر مقطع ممزق، كُتب بحبرٍ محترق كأنه نُقش وسط معركة:
[مقتطف من "سجلات الحرب الأولى – الصفحة المحظورة"]
في هذا العالم، لا أحد يُولد قويًا.
لكن هناك من يتغير... حين ينكسر.
ثلاث طرق فقط توصلك للهيمنة:
➀ السيافون
يبدؤون كسائر البشر، لا يملكون سوى سيف وسبب.
لكن مع كل جرح، تبدأ الهالة بالتكوّن — أثرٌ حي من الألم المتراكم.
كل هالة فريدة:
بعضها يحرق،
بعضها يُجمّد،
وبعضها يشقّ الزمن نفسه.
ويُقال إن كل هالة تُولد من خطيئة.
تُستخدم لتفعيل ما يُعرف بـ"طرق التدفق" — تقنيات لا تُنتزع من الهواء، بل من الجسد نفسه.
➁ السحرة
يتبعون نظام الدرجات، من الأولى إلى السابعة.
ولا تُمنح الترقية... بل تُؤخذ بثمن: ذكريات، أعمار، أو أرواحٌ محبوبة.
في الدرجات العليا، تُبرم "العقود" — لا مع أرواح، بل مع مفاهيم: النسيان، الموت، الغضب.
➂ الكائنات
لا تنتمي إلى كاليا.
تعيش في القارات الأخرى، بعيدة عن نَفَس البشر.
بعضها يزحف في الفراغ بين الحجارة، وبعضها يتنفس تحت الجليد منذ آلاف السنين.
من يواجههم… لا يعود كما كان. أو لا يعود أبدًا.
[صفحة أخرى – عن تاريخ الشعلة]
في الأزمنة الأولى، لم تكن القارات كما نعرفها.
لا شمال ولا جنوب.
لا عروش، ولا سيوف بأسماء.
بل أرضٌ واحدة، يحكمها نظامٌ خفي يُدعى ميزان الشعلة.
كان هذا الميزان قوةً تتوزع بالتساوي بين الإنسان، والوحش، والمجهول.
ومن خالف هذا التوازن... احترق.
لكن في لحظةٍ يسمّيها البعض "الانشقاق الأول"، حاولت سلالة بشرية من قارة كاليا أن تُمسك بالشعلة وحدها.
والشعلة؟
ليست سحرًا، ولا كنزًا، بل كذبة جميلة.
من يُمسك بها يُمنح أمنية واحدة... حتى وإن كانت مستحيلة.
لكن القارات احترقت من أجلها.
والذين نالوها؟
اختفوا… أو ذابوا في الضوء.
[صفحة ثالثة – لعنة السلالة المفقودة]
يقول الكهنة إن تلك العائلة احترقت بالكامل، كعقوبة على خيانتها.
لكن بعضهم يهمس أن أفرادها لم يموتوا… بل اندمجوا بالنار ذاتها.
وأن أبناءهم، الملعونين بالصمت والاشتعال، ما زالوا يمشون بيننا… بأجساد بشر، وقلوبٍ تنبض بلعناتٍ لم تُغفر.
منذ ذلك الحين، تغير لون السماء فوق كاليا كلما اقترب أحد من السيف الأسطوري.
وصار الليل أطول كلما وُلد طفل بعينٍ لا تنظر إلى العالم… بل إلى ما تحته.
[وفي كتاب منسيّ دوّنه ناسكٌ أعمى من الجنوب الملعون]
"سيأتي ظلٌّ لا يملك انعكاسًا،
لكنه يحرق كل مرآةٍ تراه."
"لن ينتمي لأي أرض،
ولن تقيّده لغة،
ولن يرحم من يبحث عن وجهه في عينيه."
"هو لا نبي، ولا وحش… بل نتيجة.
آخر ما تبقّى من ماضٍ رفض أن يُدفن."
ويُقال إن هذا الظل، إن وُلد، لا يمكن كتمه.
لأن العالم نفسه سيتنفس معه.
والسيوف ستستيقظ من سباتها، واحدًا تلو الآخر.
ومع استيقاظها،
ستتحرك الكيانات التي نسينا أسماءها،
وتتنفّس الأرض من شقوقها القديمة —
لا لتُعيد التوازن،
بل لتحرّق من ظنّ أن النسيان خلاص.
الفصل 1
"هل أنت متأكد من قرارك؟"
جاء الصوت خافتًا، كنسمة تسبق العاصفة.
وقف الرجل صامتًا، رأسه منحني، كأن الإجابة أثقل من أن تُقال… ثم تمتم بصوت لا يكاد يُسمع، لكنه حمل نبرة من
الألم والقدر:
"نعم."
وبلحظة، انفجر النور.
ضوء ساطع طغى على كل شيء — كأن العالم ذاته تمزّق وأُعيد نسجه في رمشة عين.
...
(جنوب قارة كاليا — عمق الغابة المحرّمة)
كانت المنطقة محاطة بأشجار كثيفة عالية، تتشابك فروعها في الأعلى وتمنع وصول الضوء إلا بشكل خفيف. الأرض مغطاة بطبقة رطبة من العشب المتآكل، وتتخللها جذور بارزة وأحجار ملساء.
في فجوة وسط هذا الظلام، اشتعلت نار صغيرة داخل دائرة من الحجارة القديمة
.جلس هيكارو أمامه، السيف على الأرض إلى جانبه، ويداه قرب اللهب. خلفه، استند كيوجي إلى جذع شجرة ضخمة،
الهواء كان باردًا، رطبًا، ولا يُسمع فيه سوى طقطقة النار الضعيفة.
استفاق كيوجي على صوت نار هادئة… وصوت قلبه يقرع كطبول خافتة من زمن بعيد.
كان مستلقيًا، ظهره يلامس جذع شجرة ضخمة، والأرض من تحته رطبة ودافئة، كأنها تهمس له بشيء لا يفهمه.
رفع نظره ببطء.
النار... الحجارة القديمة... الشجرة المعروفة... القمر المحجوب بضباب خفيف.
كل شيء بدا مألوفًا بشكل يبعث القشعريرة.
"غريب..."
لكنّه لم يُكمل.
الكلمات تجمدت على شفتيه، وعقله امتلأ بشعور لا اسم له. كأن شيئًا في هذا المشهد يحاول أن يخبره بشيء... لكنه لا يملك المفتاح.
هل هو مجرد وهم؟ هل خدعته ذاكرته؟ أم أن هذا المكان يحمل شيئًا أعمق مما يبدو؟
لا إجابة.
كل ما كان مؤكدًا هو الجالس أمام النار… هيكارو.
منحني الظهر، يداه قرب اللهب، لا يطلب دفئًا، بل كأنما يناجي جمرة داخله لا تنطفئ.
كيوجي لم يتحرك. كل شيء فيه قال: اصمت. لكن شيئًا داخله — غامضًا كالحزن — أجبره على الكلام.
"هيكارو… لماذا تريد مهاجمة مقر العصابة؟"
لم يكن سؤالًا عابرًا. بل ارتجافًا من قلبه، محاولة أخيرة لفهم "لماذا هو هنا".
هيكارو لم يلتفت.
تردد الصمت، ثم نظر هيكارو إلى النار. رفع يديه ببطء نحو اللهب، أشارك النار أن تحترق لأجله، ثم بدأ الكلام بصوت منخفض:
"لم أعرف والديّ أبدًا. لا أكثر من ظلّين بعيدين... لمسات خافتة من أمي، وهمسات أبي، كأنه قالها معتقدًا أنني نائم. لم أكن كذلك."
رفع رأسه، وأغمض عينيه كما لو كان يحاول أن يستحضر تلك الذكريات التي حاولت الأزمان محوها.
"نشأت في قرية، لا تحمل اسمًا يُذكر، معلقة على شفا جبالٍ نائية، هناك حيث تتلامس قمم الأبراج الحجرية مع السحب، وتهب الرياح محملة بأسرار لا تُروى."
كانت القرية مبنية على طبقات صخرية معلقة، البيوت متلاصقة كأنما تقترب من بعضها لتتدفأ. الأسقف مغطاة بشرائح الخشب المحروق، والجدران من حجرٍ رمادي يحمل آثار الزمن والعواصف.
الأزقة ضيقة، لا تسير فيها الرياح بل تتسلل، وتحمل معها روائح الخبز والرماد. كانت هناك نافورة صغيرة في قلب القرية، لا يتوقف ماؤها، محاطة بتماثيل متآكلة لوجوه لا أحد يذكر أسماءها.
في المساء، تُضاء المشاعل على الجدران، فتتحوّل الظلال إلى أشباح راقصة فوق الحجارة. النساء ينسجن القماش بصمت، والرجال يحفرون الأرض لزرع لا ينبت إلا إن روي بعرق الخوف. والأطفال؟ يصنعون أبطالهم من الخشب والطين، ويقاتلون عمالقة من الغبار.
لكن في عيون الكبار... كان هناك شيء مكبوت. حديثٌ لا يُقال. سرٌ قديم، دفنوه في صمتِ الليالي.
هيكارو يتنهد:
"بيوت من خشبٍ داكن، القش يكسو الأسقف. كل مساء، كانت المشاعل تضيء الأزقة كأنها نجوم صغيرة أُخفيت بين الظلال. كان الكبار يتحدثون عن تنانين نائمة، عن سحرٍ قديم يختبئ تحت الأرض."
توقف، وابتسم ابتسامة تشبه دمعة تسقط في صمت الليل.
"أصدقاء الطفولة... كانوا كل شيء."
تنهد ببطء:
"رين، ذلك الفتى الذي كان وجهه مغطى دائمًا بغبار الشجارات، لكنه لم يفقد ضحكته أبداً."
"آكا، القطة الصغيرة التي كانت تجيد القفز بين الأسطح، دائمًا ما كانت تسبقنا إلى المغامرات."
"كنا نلعب بسيوف خشبية، نصنع تمائم من أغصان الصنوبر."
صمت للحظة، قبل أن يضيف بصوت أكثر خشونة:
"جدتي كانت حضني الدافئ في كل مرة أخطئ، وخبزها كان رائحته تملأ البيت بالحب. وجدّي... وجدّي كان صامتًا، لكن سيفه كان يعلمني أكثر من الكلام."
"لم تكن فقط دروس سيف، بل كانت طقوسًا قديمة، شعرت أن السيف يحمل تاريخًا أقدم من عمري."
كان يتنهد ببطء، وكأن كل كلمة تسرق جزءًا من روحه:
"في تلك الأيام كان قلبي خفيفًا، لا أعرف بعد معنى الخسارة. وكان الليل يمر بهدوء، يحمل معه أحلام الطفولة."
ثم، في همسٍ مخيف:
"لكن ذلك الهدوء... كان قبل العاصفة."
توقف، قبل أن يضيف بصوت كأنه يراه يحدث أمام عينيه:
"كنت في التاسعة. جالسًا قرب المدفأة، أشاهد جدّي يشحذ سكينه القديم، وكانت جدتي تحيك بصمت."
"مرّت ريح حاملة لرائحة دخان خافتة. لم يكن أحد يلتفت."
ثم ارتفع الصوت، لا انفجار فحسب، بل نذير موت كامل.
"ارتجت الأرض، وبدأ الصراخ."
"النيران التهمت كل شيء. رأيت جدّي يقاتل حتى سقط، وفأسه كُسر."
"رأيت جدتي تُسحب من شعرها، تختفي في لهيب لا نهاية له."
"رأيت أصدقائي... ينزفون، يذبحون."
"كل صرخة... سهم. كل دمعة... نار."
"كنت مجرد طفل، يقف وحيدًا وسط رماد ما كان بيتنا."
(وقفت بين الركام، أختنق، أحدّق في جحيمٍ حي لا ينتهي.)
(وهنا، ارتجف صوت من الجهة الأخرى من النار… كيوجي.)
كيوجي (بصوت مختنق):
"كفاية… هيكارو، أرجوك…"
(كانت دموعه تلمع على وجنتيه، ولم يحاول إخفاءها. رفع يده إلى وجهه كمن يحاول محو صورة لا تُمحى. بدا كمن يتلقى الطعنات نفسها مع كل كلمة.)
كيوجي (والدموع تخنق صوته):
"أنت… عشت جحيمًا لا يُطاق، وأنا كنت أظن أنك مجرد شخص قوي لأنك لا تتكلم. ما كنت أعرف أنك كنت تحترق بصمت كل هذه السنوات…
يا إلهي… طفل في التاسعة يرى كل هذا… كيف بقيت واقفًا؟ كيف نجوت؟"
(يصمت لحظة، يمسح وجهه بعنف، كمن يحاول استعادة تماسكه، ثم يهمس بشيء يشبه الاعتراف:)
"لو كنت مكانك… ما كنت خرجت من تلك القرية أبدًا."
(هيكارو ينظر إليه، نظرة طويلة، فيها امتنان صامت، لكن صوته حين عاد، كان أعمق… أكثر هدوءًا.)
هيكارو:
"لم أخرج… ليس حقًا. جزء مني ما زال هناك، كيوجي. في الرماد. في جثث أصدقائي. في يد جدّي التي سقطت قبل أن تُكمل ضربة الدفاع.
نجوت بجسدي… أما روحي؟ تركتها معهم."
(يسكت لحظة، يتنفس ببطء، ثم يُكمل بصوت كأنه حوار مع الظلال:) "مرّت 8 سنوات على المجزرة، لكن الزمن لم يكن رفيقًا لي، بل سيفًا باردًا يُقلب في الجرح كل ليلة. كنت وحيدًا في صحراء نائية، أبحث عن ظلٍّ يشبهني. كبرت أسرع مما تحتمله قلوب الأطفال، ومشيت بعيدًا، لا أعلم إلى أين. كنت أتبع الريح… أو أهرب منها."
(يسكت لحظة، ثم يبتسم ابتسامة باهتة فيها حنين مرّ.)
"… وقبل أن ينطفئ ضوءي تمامًا، التقيت به."
(ينظر إلى كيوجي مباشرة.)
هيكارو:
"التقيت بك."
كيوجي (متفاجئ):
"أنا؟"
هيكارو (بصوت خافت): "كنت في السابعة عشر من عمري، مرهقًا، جائعًا، وحافي القدمين. سقطت في وادٍ قرب العاصمة، أنزف وأنتظر موتًا لا يأتي. فجأة… سمعت صخبًا. شابٌ يقاتل ثلاثة رجال، لا يحمل سيفًا، فقط فمه ولسانه. كان يهتف: 'ثلاثة على واحد؟ هذا ليس عدلًا عليكم!' ثم ركل أولهم بحجر صغير… وفرّوا كأنهم رأوا شبحًا."
(يضحك كيوجي بينما يمسح آخر دمعة، ويقول:)
"أوه… أتذكر الآن… كنت تنظر إلي كأنك لا تصدّق أن أحدًا يساعدك دون مقابل."
هيكارو:
"لأنني فعلاً لم أصدق. في عالمي… الناس يسرقون، يقتلون، يحرقون.
لكن في تلك اللحظة… فهمت أن العالم ليس سوادًا فقط."
"منذ تلك الليلة، صرنا نسير سويًا.
لم أقل لك كل شيء وقتها، ولا في الأيام التي تلت…
لكنك كنت أول شخص أمدّ له يدي من جديد."
(ينظر هيكارو إلى النار، ثم يتنفس بعمق.)
هيكارو:
"ولهذا… حين قررت العودة… حين قررت مواجهة من فعلوا هذا بي…
كنت أنت أول من خطر في بالي.
لأنك الشخص الوحيد الذي لم يخذلني حين كنت في أسوأ لحظاتي.
ولهذا… أنا ممتن لأنك معي الليلة، هنا، في هذه الغابة."
(ثم يهمس بصوت شبه مكسور، ينظر إلى النار التي تترنح، وكأنها تنحني مع كل كلمة:)
هيكارو:
"أريد أن أُنهي هذا، كيوجي.
ليس من أجل الانتقام فقط…
بل لأدفن رمادهم في قلبي، لا في الذاكرة.
وأُشعل نفسي… حتى لا يبقى في الليل موضعٌ للظلال."
(ساد الصمت للحظة… لكنه لم يكن هدوءًا مريحًا، بل صمتًا مشحونًا.)
كيوجي، وهو يحدّق في النار:
"... كأننا كنا هنا من قبل."
(هيكارو يلتفت نحوه ببطء، وهو مستغرب.
كيوجي يغمض عينيه لحظة، كأن ومضة ما حاولت الخروج من أعماقه... لكنه لا يستطيع الإمساك بها.)
كيوجي (يهمس):
"غريب… أشعر أنني قلت هذا من قبل…
لكن… لا أتذكر متى."
(تهتز النار فجأة، كأنها ضحكة مكتومة في وجه زمنٍ مكسور.)
(هيكارو لا يعلّق. فقط يراقب كيوجي، ونظرة عميقة تمرّ بينهما، كأنها من حياة أخرى.)
(وفي ختام كلماته، ساد الصمت للحظة… لكنه لم يكن هدوءًا مريحًا، بل صمتًا مشحونًا.)
(ثم… تكسّر ذلك السكون.)
طقطقة فرعٍ يُدهس.
كيوجي انتصب فورًا، يده تبحث عن سيفه، وعيناه إلى الظلال خلف الأشجار.
لكن هيكارو كان قد عرف بالفعل.
"تأخروا عن الموعد بدقيقة..." — قالها بهدوء قاتل، وهو ينهض، يلتقط سيفه من الأرض.
كيوجي (بهمس):
"... من؟"
هيكارو:
"العصابة."
(نظرة نارية عبرت عينيه، كمن قضى عمره ينتظر هذه اللحظة.)
"لقد وجدونا."
ثم في ومضة — دوى صفير سهم، واخترق أحد الحجارة بجوارهم.
**الهجوم بدأ.**