Cherreads

Chapter 13 - تاست

الفصل 0 – ما قبل النسيان

"قبل أن يُولد الظل الأخير، كانت هناك نار. وقبل أن تتكلم النار، كان هناك صمتٌ، حفظ فيه العالم أنفاسه الأخيرة."

هكذا تبدأ المخطوطة المحظورة التي عُثر عليها في أنقاض مكتبة "أورفال القديمة"، ملفوفة بجلدٍ أسود لا يُعرف أصله، ومكتوبة بحبرٍ لم يجف منذ ألف عام.

في الأزمنة الأولى، لم تكن القارات كما نعرفها الآن. لم يكن هناك شمال وجنوب، ولا عروش، ولا سيوف بأسماء. كانت الأرض واحدة، يحكمها نظامٌ خفيّ يُسمّى ميزان الشعلة.

كان هذا الميزان قوة تتوزّع بالتساوي بين الكائنات: الإنسان، والوحش، والمجهول. ومن خالف هذا التوازن... احترق.

لكن في لحظةٍ ما — يسميها البعض "الانشقاق الأول" — حاولت إحدى السلالات البشرية من قارة كاليا أن تُمسك بالشعلة وحدها.

يقول الكهنة إن تلك العائلة أُحرقت بالكامل على أيدي البشر، كعقوبة على خطيئتها…

لكن البعض يهمس بأنهم لم يموتوا، بل اندمجوا بالنار نفسها.

وأن أبناءهم، الملعونين بالصمت والاشتعال، ما زالوا يمشون بيننا… بأجساد بشر، وقلوبٍ تنبض بلعناتٍ لم تُغفر.

منذ ذلك الحين، تغيّر لون السماء فوق كاليا كلما اقترب أحد من السيف الأسطوري.

وصار الليل أطول كلما وُلد طفل بعينٍ لا تنظر إلى العالم… بل إلى ما تحته.

في كتاب منسيّ، دوّنه ناسكٌ أعمى من الجنوب الملعون، كُتب:

"سيأتي ظلٌّ لا يملك انعكاسًا، لكنه يحرق كل مرآةٍ تراه."

"لن ينتمي لأي أرض، ولن تقيّده لغة، ولن يرحم من يبحث عن وجهه في عينيه."

"هو لا نبيّ، ولا وحش… بل نتيجة. آخر ما تبقّى من ماضٍ رفض أن يُدفن."

ويُقال إن هذا الظل، إن وُلد، لا يمكن كتمه…

لأن العالم نفسه سيتنفس معه،

والسيوف ستستيقظ من سباتها، واحدًا تلو الآخر.

ومع استيقاظها،

ستتحرك الكيانات التي نسينا أسماءها،

وتتنفّس الأرض من شقوقها القديمة،

لا لتُعيد التوازن… بل لتحرّق من ظنّ أن النسيان خلاص.

الفصل 1

"هل أنت متأكد من قرارك؟"

جاء الصوت خافتًا، كنسمة تسبق العاصفة.

وقف الرجل صامتًا، رأسه منحني، كأن الإجابة أثقل من أن تُقال… ثم تمتم بصوت لا يكاد يُسمع، لكنه حمل نبرة من

 الألم والقدر:

"نعم."

وبلحظة، انفجر النور.

ضوء ساطع طغى على كل شيء — كأن العالم ذاته تمزّق وأُعيد نسجه في رمشة عين.

...

(جنوب قارة كاليا — عمق الغابة المحرّمة)

كانت المنطقة محاطة بأشجار كثيفة عالية، تتشابك فروعها في الأعلى وتمنع وصول الضوء إلا بشكل خفيف. الأرض مغطاة بطبقة رطبة من العشب المتآكل، وتتخللها جذور بارزة وأحجار ملساء.

في فجوة وسط هذا الظلام، اشتعلت نار صغيرة داخل دائرة من الحجارة القديمة

.جلس هيكارو أمامه، السيف على الأرض إلى جانبه، ويداه قرب اللهب. خلفه، استند كيوجي إلى جذع شجرة ضخمة، 

الهواء كان باردًا، رطبًا، ولا يُسمع فيه سوى طقطقة النار الضعيفة.

استفاق كيوجي على صوت نار هادئة… وصوت قلبه يقرع كطبول خافتة من زمن بعيد.

كان مستلقيًا، ظهره يلامس جذع شجرة ضخمة، والأرض من تحته رطبة ودافئة، كأنها تهمس له بشيء لا يفهمه.

رفع نظره ببطء.

النار... الحجارة القديمة... الشجرة المعروفة... القمر المحجوب بضباب خفيف.

كل شيء بدا مألوفًا بشكل يبعث القشعريرة.

"غريب..."

لكنّه لم يُكمل.

الكلمات تجمدت على شفتيه، وعقله امتلأ بشعور لا اسم له. كأن شيئًا في هذا المشهد يحاول أن يخبره بشيء... لكنه لا يملك المفتاح.

هل هو مجرد وهم؟ هل خدعته ذاكرته؟ أم أن هذا المكان يحمل شيئًا أعمق مما يبدو؟

لا إجابة.

كل ما كان مؤكدًا هو الجالس أمام النار… هيكارو.

منحني الظهر، يداه قرب اللهب، لا يطلب دفئًا، بل كأنما يناجي جمرة داخله لا تنطفئ.

كيوجي لم يتحرك. كل شيء فيه قال: اصمت. لكن شيئًا داخله — غامضًا كالحزن — أجبره على الكلام.

"هيكارو… لماذا تريد مهاجمة مقر العصابة؟"

لم يكن سؤالًا عابرًا. بل ارتجافًا من قلبه، محاولة أخيرة لفهم "لماذا هو هنا".

هيكارو لم يلتفت.

تردد الصمت، ثم نظر هيكارو إلى النار. رفع يديه ببطء نحو اللهب، أشارك النار أن تحترق لأجله، ثم بدأ الكلام بصوت منخفض:

"لم أعرف والديّ أبدًا. لا أكثر من ظلّين بعيدين... لمسات خافتة من أمي، وهمسات أبي، كأنه قالها معتقدًا أنني نائم. لم أكن كذلك."

رفع رأسه، وأغمض عينيه كما لو كان يحاول أن يستحضر تلك الذكريات التي حاولت الأزمان محوها.

"نشأت في قرية، لا تحمل اسمًا يُذكر، معلقة على شفا جبالٍ نائية، هناك حيث تتلامس قمم الأبراج الحجرية مع السحب، وتهب الرياح محملة بأسرار لا تُروى."

كانت القرية مبنية على طبقات صخرية معلقة، البيوت متلاصقة كأنما تقترب من بعضها لتتدفأ. الأسقف مغطاة بشرائح الخشب المحروق، والجدران من حجرٍ رمادي يحمل آثار الزمن والعواصف.

الأزقة ضيقة، لا تسير فيها الرياح بل تتسلل، وتحمل معها روائح الخبز والرماد. كانت هناك نافورة صغيرة في قلب القرية، لا يتوقف ماؤها، محاطة بتماثيل متآكلة لوجوه لا أحد يذكر أسماءها.

في المساء، تُضاء المشاعل على الجدران، فتتحوّل الظلال إلى أشباح راقصة فوق الحجارة. النساء ينسجن القماش بصمت، والرجال يحفرون الأرض لزرع لا ينبت إلا إن روي بعرق الخوف. والأطفال؟ يصنعون أبطالهم من الخشب والطين، ويقاتلون عمالقة من الغبار.

لكن في عيون الكبار... كان هناك شيء مكبوت. حديثٌ لا يُقال. سرٌ قديم، دفنوه في صمتِ الليالي.

هيكارو يتنهد:

"بيوت من خشبٍ داكن، القش يكسو الأسقف. كل مساء، كانت المشاعل تضيء الأزقة كأنها نجوم صغيرة أُخفيت بين الظلال. كان الكبار يتحدثون عن تنانين نائمة، عن سحرٍ قديم يختبئ تحت الأرض."

توقف، وابتسم ابتسامة تشبه دمعة تسقط في صمت الليل.

"أصدقاء الطفولة... كانوا كل شيء."

تنهد ببطء:

"رين، ذلك الفتى الذي كان وجهه مغطى دائمًا بغبار الشجارات، لكنه لم يفقد ضحكته أبداً."

"آكا، القطة الصغيرة التي كانت تجيد القفز بين الأسطح، دائمًا ما كانت تسبقنا إلى المغامرات."

"كنا نلعب بسيوف خشبية، نصنع تمائم من أغصان الصنوبر."

صمت للحظة، قبل أن يضيف بصوت أكثر خشونة:

"جدتي كانت حضني الدافئ في كل مرة أخطئ، وخبزها كان رائحته تملأ البيت بالحب. وجدّي... وجدّي كان صامتًا، لكن سيفه كان يعلمني أكثر من الكلام."

"لم تكن فقط دروس سيف، بل كانت طقوسًا قديمة، شعرت أن السيف يحمل تاريخًا أقدم من عمري."

كان يتنهد ببطء، وكأن كل كلمة تسرق جزءًا من روحه:

"في تلك الأيام كان قلبي خفيفًا، لا أعرف بعد معنى الخسارة. وكان الليل يمر بهدوء، يحمل معه أحلام الطفولة."

ثم، في همسٍ مخيف:

"لكن ذلك الهدوء... كان قبل العاصفة."

توقف، قبل أن يضيف بصوت كأنه يراه يحدث أمام عينيه:

"كنت في التاسعة. جالسًا قرب المدفأة، أشاهد جدّي يشحذ سكينه القديم، وكانت جدتي تحيك بصمت."

"مرّت ريح حاملة لرائحة دخان خافتة. لم يكن أحد يلتفت."

ثم ارتفع الصوت، لا انفجار فحسب، بل نذير موت كامل.

"ارتجت الأرض، وبدأ الصراخ."

"النيران التهمت كل شيء. رأيت جدّي يقاتل حتى سقط، وفأسه كُسر."

"رأيت جدتي تُسحب من شعرها، تختفي في لهيب لا نهاية له."

"رأيت أصدقائي... ينزفون، يذبحون."

"كل صرخة... سهم. كل دمعة... نار."

"كنت مجرد طفل، يقف وحيدًا وسط رماد ما كان بيتنا."

(وقفت بين الركام، أختنق، أحدّق في جحيمٍ حي لا ينتهي.)

(وهنا، ارتجف صوت من الجهة الأخرى من النار… كيوجي.)

كيوجي (بصوت مختنق):

"كفاية… هيكارو، أرجوك…"

(كانت دموعه تلمع على وجنتيه، ولم يحاول إخفاءها. رفع يده إلى وجهه كمن يحاول محو صورة لا تُمحى. بدا كمن يتلقى الطعنات نفسها مع كل كلمة.)

كيوجي (والدموع تخنق صوته):

"أنت… عشت جحيمًا لا يُطاق، وأنا كنت أظن أنك مجرد شخص قوي لأنك لا تتكلم. ما كنت أعرف أنك كنت تحترق بصمت كل هذه السنوات…

يا إلهي… طفل في التاسعة يرى كل هذا… كيف بقيت واقفًا؟ كيف نجوت؟"

(يصمت لحظة، يمسح وجهه بعنف، كمن يحاول استعادة تماسكه، ثم يهمس بشيء يشبه الاعتراف:)

"لو كنت مكانك… ما كنت خرجت من تلك القرية أبدًا."

(هيكارو ينظر إليه، نظرة طويلة، فيها امتنان صامت، لكن صوته حين عاد، كان أعمق… أكثر هدوءًا.)

هيكارو:

"لم أخرج… ليس حقًا. جزء مني ما زال هناك، كيوجي. في الرماد. في جثث أصدقائي. في يد جدّي التي سقطت قبل أن تُكمل ضربة الدفاع.

نجوت بجسدي… أما روحي؟ تركتها معهم."

(يسكت لحظة، يتنفس ببطء، ثم يُكمل بصوت كأنه حوار مع الظلال:) "مرّت 8 سنوات على المجزرة، لكن الزمن لم يكن رفيقًا لي، بل سيفًا باردًا يُقلب في الجرح كل ليلة. كنت وحيدًا في صحراء نائية، أبحث عن ظلٍّ يشبهني. كبرت أسرع مما تحتمله قلوب الأطفال، ومشيت بعيدًا، لا أعلم إلى أين. كنت أتبع الريح… أو أهرب منها."

(يسكت لحظة، ثم يبتسم ابتسامة باهتة فيها حنين مرّ.)

"… وقبل أن ينطفئ ضوءي تمامًا، التقيت به."

(ينظر إلى كيوجي مباشرة.)

هيكارو:

"التقيت بك."

كيوجي (متفاجئ):

"أنا؟"

هيكارو (بصوت خافت): "كنت في السابعة عشر من عمري، مرهقًا، جائعًا، وحافي القدمين. سقطت في وادٍ قرب العاصمة، أنزف وأنتظر موتًا لا يأتي. فجأة… سمعت صخبًا. شابٌ يقاتل ثلاثة رجال، لا يحمل سيفًا، فقط فمه ولسانه. كان يهتف: 'ثلاثة على واحد؟ هذا ليس عدلًا عليكم!' ثم ركل أولهم بحجر صغير… وفرّوا كأنهم رأوا شبحًا."

(يضحك كيوجي بينما يمسح آخر دمعة، ويقول:)

"أوه… أتذكر الآن… كنت تنظر إلي كأنك لا تصدّق أن أحدًا يساعدك دون مقابل."

هيكارو:

"لأنني فعلاً لم أصدق. في عالمي… الناس يسرقون، يقتلون، يحرقون.

لكن في تلك اللحظة… فهمت أن العالم ليس سوادًا فقط."

"منذ تلك الليلة، صرنا نسير سويًا.

لم أقل لك كل شيء وقتها، ولا في الأيام التي تلت…

لكنك كنت أول شخص أمدّ له يدي من جديد."

(ينظر هيكارو إلى النار، ثم يتنفس بعمق.)

هيكارو:

"ولهذا… حين قررت العودة… حين قررت مواجهة من فعلوا هذا بي…

كنت أنت أول من خطر في بالي.

لأنك الشخص الوحيد الذي لم يخذلني حين كنت في أسوأ لحظاتي.

ولهذا… أنا ممتن لأنك معي الليلة، هنا، في هذه الغابة."

(ثم يهمس بصوت شبه مكسور، ينظر إلى النار التي تترنح، وكأنها تنحني مع كل كلمة:)

هيكارو:

"أريد أن أُنهي هذا، كيوجي.

ليس من أجل الانتقام فقط…

بل لأدفن رمادهم في قلبي، لا في الذاكرة.

وأُشعل نفسي… حتى لا يبقى في الليل موضعٌ للظلال."

(ساد الصمت للحظة… لكنه لم يكن هدوءًا مريحًا، بل صمتًا مشحونًا.)

(ثم… تكسّر ذلك السكون.)

كيوجي، وهو يحدّق في النار:

"... كأننا كنا هنا من قبل."

(هيكارو يلتفت نحوه ببطء، لكن لا يقول شيئًا.

كيوجي يغمض عينيه لحظة، كأن ومضة ما حاولت الخروج من أعماقه... لكنه لا يستطيع الإمساك بها.)

كيوجي (يهمس):

"غريب… أشعر أنني قلت هذا من قبل…

لكن… لا أتذكر متى."

(تهتز النار فجأة، كأنها ضحكة مكتومة في وجه زمنٍ مكسور.)

(هيكارو لا يعلّق. فقط يراقب كيوجي، ونظرة عميقة تمرّ بينهما، كأنها من حياة أخرى.)

(وفي ختام كلماته، ساد الصمت للحظة… لكنه لم يكن هدوءًا مريحًا، بل صمتًا مشحونًا.)

(ثم… تكسّر ذلك السكون.)

طقطقة فرعٍ يُدهس.

كيوجي انتصب فورًا، يده تبحث عن سيفه، وعيناه إلى الظلال خلف الأشجار.

لكن هيكارو كان قد عرف بالفعل.

"تأخروا عن الموعد بدقيقة..." — قالها بهدوء قاتل، وهو ينهض، يلتقط سيفه من الأرض.

كيوجي (بهمس):

"... من؟"

هيكارو:

"العصابة."

(نظرة نارية عبرت عينيه، كمن قضى عمره ينتظر هذه اللحظة.)

"لقد وجدونا."

ثم في ومضة — دوى صفير سهم، واخترق أحد الحجارة بجوارهم.

**الهجوم بدأ.**

فصل 2

(ثم… تكسّر ذلك السكون.)

كيوجي (بهمس حاد):

"سمعت؟"

(هيكارو لم يجب، بل كان قد تحوّل بجسده بالكامل نحو الظلام، يحدّق في السواد خلف الأشجار. خطوات… حذرة، ثقيلة، لكنها تتقرب. لم تكن حيوانات.)

(وفي لحظة، انعكست نار المخيم على حدّة سيف.)

هيكارو (بصوت منخفض لكنه صارم):

"إنهم هم… العصابة."

(كيوجي يقفز فورًا، يمسك سيفه، ينظر إلى هيكارو.)

كيوجي:

"رأوا النار… جاءوا ليتحققوا."

(هيكارو يغمض عينيه للحظة، يأخذ نفسًا عميقًا… ثم يفتحهما وعيناه تشعّان بتصميم بارد.)

هيكارو:

"ربما… حان الوقت أخيرًا."

(من بين الظلال، يظهر أول رجل — ملثّم، ضخم الجثة، يحمل فأسًا على كتفه.)

الرجل الغريب (بصوت ساخر):

"أوه؟ لم نكن نتوقع أن نجد نزهة ليلية هنا… نارٌ، وصديقان حميمان؟"

كيوجي (يميل على السيف، يبتسم ببرود):

"عفوًا، هذه نزهة خاصة. تحتاج إلى دعوة."

(ضحك خشن يتردد من بين الأشجار… ويظهر رجلان آخران.)

(لكن هيكارو لا يتحرك. عينه معلّقة على الرجل الأول، ثم على الوشم الذي يلمع على عنقه — الرمز نفسه الذي رآه منذ خمس سنوات.)

هيكارو (بهمس يكاد يكون غير مسموع):

"أنت كنت هناك… أنت كنت في قريتي."

(صوته يتحوّل من الهمس إلى لهجة تكاد تحرق الهواء.)

هيكارو:

"ولن تمرّ هذه الليلة كما مرّت تلك الليلة."

(يسحب سيفه، ووميض اللهب ينعكس على نصله… كيوجي يلتفت نحوه، عينيه مليئتان بالدهشة.)

كيوجي:

"هيكارو… هل أنت مستعد؟"

هيكارو (بصوت عميق):

"كنت أستعد منذ 8 سنوات."

(وتبدأ المعركة… لا كقتال عادي، بل كفصل أخير من ذاكرة محترقة، يعاد كتابتها بسيفين، وقلبين، ونار لن تنطفئ حتى يُدفن الرماد.)

(الهواء في الغابة تغيّر. لم تعد النسائم تهمس بل كأنها توقفت، كأن الغابة نفسها تنتظر.

ثلاثة رجال من العصابة يقتربون، يحيطون بالنار كذئاب تتحسس الفريسة.

هيكارو يقف بثبات، والسيف في يده لا يرتجف.)

الرجل الأول (بغطرسة):

"سيفك يبدو أنيقًا… هل تعرف كيف تستعمله؟ أم أنه للزينة؟"

(لم يجب هيكارو، بل تحرّك بخطوة واحدة فقط… لكنها كانت كافية.

في طرفة عين، اندفع كالسهم — والسيف لمع كوميض برق — وارتدّ الرجل الأول إلى الوراء وهو يصرخ، يده تنزف.)

كيوجي (مذهول):

"اللعنة…"

(لكن ما كان لهيكارو أن يتوقف.

الذكرى تحكم ذراعه، لا العقل — صور الأجساد، الدم، النار، عيون الأطفال…

ضربات سريعة، دقيقة، بلا رحمة. كأن الجحيم ذاته يتحدث بلغة السيف.)

(الرجل الثاني يحاول الهجوم من الخلف، لكن كيوجي يتدخّل، سيفه يعترض الضربة، ثم يضحك.)

كيوجي:

"آه، أخيرًا بعض الحركة."

(يشتبك معه، خفيف الخطوة، سريع، لا يضاهي مهارة هيكارو، لكن لديه شيء آخر: الجنون الخفيف… والشجاعة.)

(أمّا هيكارو، فقد بقي مع الرجل الثالث، الأطول والأقوى. السيفان يتصادمان، الشرر يتطاير.

لكن في عين هيكارو… لم يكن يرى هذا الرجل فقط — بل كل وجه من وجوه الماضي.)

الرجل الثالث (وهو يلهث):

"من أنت بحق الجحيم؟!"

(هيكارو يهمس كأنّه لا يخاطبه بل يخاطب الموت نفسه.)

هيكارو:

"أنا ظلّ تلك الليلة…"

(وبحركة واحدة، حاسمة، يسقط السيف الأخير.

الدم يسيل على أوراق الغابة، مختلطًا بندى الليل.)

(كيوجي يقف بجانبه، منهكًا، لكن منتصرًا.)

كيوجي (وهو يلتقط أنفاسه):

"ثلاثة فقط؟ كنت أتوقع أكثر…"

هيكارو (ينظر إلى الجثث، بصوت خافت):

"كانوا طليعة فقط… الكبار لا يأتون أولًا."

(يسود الصمت للحظة، سوى صوت النار.)

كيوجي (بهدوء):

"هذا يعني… أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد."

(هيكارو لا يرد، بل ينظر نحو أعماق الغابة. وكأن هناك شيئًا… أو أحدًا… ينتظر.)

هيكارو:

"لكنها اقتربت… وأنا لم أعد الطفل الذي كنت عليه."

(ثم ينظر إلى كيوجي، وفي صوته صدق قاتل.)

هيكارو:

"سأُنهي كل شيء هذه المرة. مهما كلف الأمر."

(بعد أن خمدت ألسنة النار، وبقيت فقط رائحة الحديد المحترق في الهواء…)

(كيوجي ينظر إلى هيكارو، وكلاهما مغطى بالدم والعرق، لكن واقفان.)

كيوجي (بصوت خافت وهو يلتقط أنفاسه):

"ظننت أنني سأموت الليلة…"

هيكارو (ينظر نحو الغابة، وعيناه لا تزالان مشتعلة):

"الموت لم يكن لنا هذه الليلة… بل لهم."

(ثم يركع أمام أحد الجثث، يزيح ياقة قميصه، ويرى الوشم… تتسع عيناه، وتتغير ملامحه تدريجيًا — كما لو أنه فتح بوابة نحو الجحيم.)

هيكارو (بصوت يكاد يكون همسًا):

"الرمز… رايغا."

(كيوجي يقترب، ينظر إلى الوشم، يصمت.)

كيوجي:

"يعني أنهم ليسوا طليعة فقط… بل طليعة الجحيم."

(هيكارو ينهض ببطء، ينظر إلى الأفق حيث تلتقي ظلال الجبال بالأفق الرمادي للفجر.)

هيكارو:

"إذا كان هذا الرمز ما أظنه… فالمكان الذي أُحرقت فيه قريتي… لم يكن نهاية. بل كان بداية شيء أكبر."

(صمت ثقيل. النار تشتعل بهدوء. الريح تمرّ وكأنها تنصت.)

هيكارو (بصوت منخفض يشبه الوعد):

"المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد… لكنها اقتربت."

(ثم ينظر إلى كيوجي، بثبات قاتل.)

هيكارو:

"هيا… نُطارد الرماد حتى نصل إلى من أشعلوه."

(قطع إلى الظلام… وصوت خطى تبتعد في عمق الغابة.)

فصل 3 

"ليس كل الرماد يخفي موتًا... بعضه ينتظر أن يشتعل من جديد."

(هيكارو ينهض ببطء، عينيه لا تزالان معلقَتين على الوشم المحفور في الجلد المحترق — تتوهج خطوط الرمز بلون كالحشيش المحروق.)

هيكارو (بصوت حادّ):

"ليسوا مرتزقة… هم أتباع الرمز. الرأس نحو اليسار؟ يعني القاعدة — مرفأ العظام."

(يمد يده نحو كيوجي بثقة صلبة.)

هيكارو:

"هيا. إلى الجنوب. آن أوان النهاية."

(بعد ساعات من السير، والليل يوشك على الانكسار...)

(الأرض تغيّرت: لم تعد غابة كثيفة، بل امتداد أرض سوداء مشققة تعلوها أعمدة حجرية مائلة، كأنها بقايا معبد مفقود.)

(الهواء ثقيل برائحة المعدن الحي — كأن صدأ الزمن ذاته يتنفس هنا.)

(في الأفق... تتمايل ظلال مدينة متحجرة — ميناء قديم قيل إنه ابتلعته لعنة مياه الموت منذ مئة عام.)

(قريبًا من الساحل، بين ضباب مائل إلى الأخضر — رصيف عظمي مكوّن من عظام مخلوقات بحرية ضخمة متحجرة، يقود إلى بوابة ضخمة محفورة في حافة الجرف.)

(بوابة برونزية مرصعة بأحجار أونيكس داكنة، وعليها نقش الرمز — يشع بخفوت أرجواني.)

كيوجي (يخفض صوته):

"هذا هو؟"

هيكارو (نظره يزداد قتامة):

"الرمز قادنا إلى هنا… مرفأ العظام — حيث تختبئ تجار الدماء واللعنات."

(يركع، يلمس العظام بحذر.)

هيكارو (بهمس):

"من يخطو هنا… لا يخرج إلا محمولًا."

(التحضير للاقتحام)

(يختبئان خلف عمود مائل — كانت ذات يوم جزءًا من بوابة أرشانية.)

(هناك حارسان — ليسوا عاديين. جلودهم مغطاة بوشوم متوهجة، وأعينهم فضية باهتة.)

(بجانبهم نار خضراء باردة — تتراقص دون لهب — وصناديق معدنية منقوشة بعلامات تعاويذ قديمة.)

كيوجي (بهمس):

"اثنان فقط؟ إما أن الباقين في أعماق المرفأ… أو هذا مجرد مدخل شعائري."

هيكارو (ينظر حوله):

"دخول مباشر يعني مواجهة الشعائر الدفاعية."

(عيناه تلمح شريان ماء أسود يجري بين الصخور — فتحة نهر تحت الأرض.)

هيكارو:

"هناك… مجرى النهر السفلي. طريق الظلال."

كيوجي (يبتسم رغم التوتر):

"أحيانًا إنقاذ العالم… يبدأ من أحلك الماء."

(الهبوط عبر مجرى النهر السفلي — داخل المرفأ)

(الهواء ثقيل، تنبعث منه رائحة دم قديم — كأن الأرواح لا تزال تحوم هنا.)

(الجدران الرطبة مرصعة بحروف أرشانية باهتة — تعاويذ حماية وانعكاس — بعضها مشقوق… بعضها ما زال ينبض بطيف من طاقة غامضة.)

كيوجي (يهمس):

"كأنهم حفروا مدنًا داخل لعنات."

هيكارو (ينظر إلى علامات حديثة محفورة بدم جديد):

"وأعادوا إحياء ما كان يجب أن يظل مدفونًا."

(فجأة يتوقف.)

هيكارو (بصوت منخفض):

"كيوجي… قف."

(هيكارو ينزل، يتحسس الأرض… خطوط رماد مع طلاسم حديثة — ختم كمين نشط.)

هيكارو (خافتًا):

"كمين شعائري… سيبدأ بعد لحظات."

(فجأة— صرير معدني حادّ.

دوامات من ضباب أرجواني تتدفق من فتحات السقف.)

كيوجي (يسعل):

"غاز لعنة! لا تستنشقه!"

(يحاولان التراجع… لكن حاجز طيفي يسقط خلفهما — شبكة من الضوء الأزرق البارد.)

(رجال ملثمون يقتربون وسط الضباب — ليسوا بشرًا بالكامل. أعينهم تتوهج بلون ناري. جلودهم تحمل تعاويذ محفورة بالنار.)

(رايزن يظهر — دخوله أشبه بتجلي ظل قديم.)

(يتقدم من مذبح معدني معلق في منتصف الممر — يتأرجح فوق الهاوية تحته.)

(صوته يرن كأن المكان نفسه يتجاوب معه.)

رايزن (يصفق ببطء):

"وشاح أحمر… كيف تشعر حين تدخل مرفأ الأرواح؟"

هيكارو (يتقدم خطوة وسط الأسلحة المرفوعة):

"أسوأ ما في الموت… حين يظن أنه يحاصر الحيّ."

رايزن (بصوت بارد ينحت الهواء):

"أبقوا أسلحتكم قريبة… الزعيم الأعلى سيود أن يرى من هو الأحمق الذي ظن أن بإمكانه اقتحام قلب اللعنة."

(هيكارو يشد قبضته على سيفه، عينيه تتوهج كالجمر.

هذه المرة… لن يتوقف حتى يُشعل العظام تحت أقدامه.)

"ليبدأ الجحيم الحقيقي."

الفصل 4

(الاقتياد إلى الداخل — ممرات مرفأ العظام)

(يُقتاد هيكارو وكيوجي عبر دهاليز المرفأ السفلية، أقدامهم تقرع الصخور الرطبة كأنها توقظ صدى أرواحٍ لم تغادر بعد.)

(الهواء يزداد كثافة مع كل خطوة. الضباب الأرجواني المتبقي من الغاز لا يزال عالقًا بين الجدران المكسوّة بحروف أرشانية شاحبة.)

(الجدران تنزف طيف طاقة باهتة... خطوط الدم التي حفرتها طقوس القرون الماضية لا تزال حاضرة هنا، نابضة تحت المِلح والعفن.)

(رجال العصابة يحيطون بهما. عيونهم متوهجة بوميض ناري، جلودهم مغطاة بتعاويذ محفورة — تنبض في تزامن مع ضربات الطبول الخفيّة التي تتردد في القاعة.)

(في نهاية أحد الممرات المنحدرة، بوابة معدنية معقودة بأضلاع معدنية ملتوية — كأنها فم مخلوق من زمن منسي.)

(تُفتح البوابة بصريرٍ معدني عميق، كأنما تزفر روح الميناء نفسه.)

(خلفها… قاعة عتيقة: القبة العالية مرصعة بعظام ضخمة لِمخلوقات بحرية متحجّرة، أعمدتها مائلة، تتدلّى منها سلاسل صدئة تحمل مشاعل بلهب أخضر.)

(الجدران مزينة بدروع محطّمة وراياتٍ داكنة تحمل رمز العصابة — الرمز ذاته الذي يتوهّج فوق بوابة المرفأ.)

(في صدر القاعة... عرش حجري ضخم، كأنما نُحت من قلب هياكل الموتى. عليه يجلس رجل عريض الجسد، طويل الشعر — عيناه كسواد السرمد، تمتصّان النور من حولهما.)

زعيم العصابة... غينشو.

(بجواره رايزن واقف كتمثال من صمت.

هيكارو يحدّق بالعرش... جسده مشدود، عينيه تختنقان بوميضٍ قاتم.)

هيكارو (بصوت خافت، كمن يخاطب موتًا مؤجلًا):

"… أنت… أنت من بدأ كلّ شيء."

غينشو (صوته كطَرق مطرقة على نعش):

"آه... كبرتَ إذًا. ظننتُك ستصير كابوسًا لي... فإذا بك شبحٌ يتغذّى على رماد الذكريات."

(ينهض. خطواته تُحدث صدًى كأنّ الجبل يتنهّد مع كلّ حركة.)

غينشو (يمرر أصابعه على سيفه الأسود):

"كنتَ طفلًا حين رأيتني... يدُ جدّك حين قطعتُها — كم صرخ. كان رجلًا صلبًا... لكن حتى الفولاذ ينكسر أمام اللعنة."

كيوجي (غاضبًا، جسده يهتز):

"سأقطعك إربًا... لن يُعيد الزمن ماضيك الأسود!"

غينشو (يبتسم بازدراء):

"حمقى الإخلاص... أنتم أكثر لذةً حين تسقطون."

(يرفع سيفه الضخم — النصل الأسود ينبض كقلبٍ بطيء الإيقاع.)

غينشو:

"هيا... أرني ما تعلّمتَ يا ابن الرماد."

(بداية المعركة)

(كيوجي يندفع أولًا كوميضٍ خاطف، سيفه يشق الهواء نحو رايزن.)

(رايزن يُفلت ابتسامة باردة. بيد واحدة يصد الهجوم — شرارة طاقةٍ خضراء تنفجر مع التصادم.)

(يتحركان كأشباحٍ في دوامة ضوءٍ وظلال. كيوجي يجرح كتف رايزن، لكن يُقابله ضربةٌ ساحقةٌ تكسر ضلعين، يُطرَح أرضًا متألّمًا.)

(أما هيكارو... فيبقى ساكنًا لحظة، سيفه يرتجف بين أصابعه.)

(ثم ينقضّ على غينشو — خطواته كأنها هدير قادم من أعماق الأرض.)

(يتلاقى السيفان. صدمةٌ عنيفة تُزلزل القاعة.)

غينشو (وهو يصدّ الضربات ببرود القتلة):

"غضبك جميل... لكنه هائم كالنار في مهبّ الجنون."

هيكارو (يُلهب كلماته بمرارة السنين):

"ولن تنجو منه الليلة."

(الهجوم يشتدّ.

هيكارو يتحرّك بجنون، يضرب ضرباتٍ تقطّع الهواء، كأنّ كلّ لحظةٍ تُقتطع من عمره ذاته.)

(لكن غينشو... ثابت كجبل الموت.

يراوغه.

يصدّه.

ثم — بحركة مفاجئة — يوجّه ضربةً خاطفة إلى صدره.)

(النصل يخترق الدرع — الألمُ يُصعق هيكارو — يُطرَح راكعًا.)

غينشو (يرفع سيفه ببطء كمن ينحر ضحية):

"توقّعتُ أكثر من هذا."

(يضرب رأسه — ظلامٌ يُسدل ستارَه على المشهد.)

(داخل اللاوعي)

(صمت... صمتٌ يُخترق بطقطقة نارٍ خافتة.)

(صوتُ الجدّ... كصدى يتردّد بين عظام الأرض:

"قُم... لا تدعهم يسلبون ما تبقّى منك.")

(صورٌ تتلاحق — لهبٌ... صراخٌ... جسدُ كيوجي الجريح... وجوه الأطفال.)

(ثم يرى ذاته — طفلًا يبكي وسط اللهب، دون صوت.)

الهيكارو الصغير (يهمس):

"إما أن تموت هنا... أو تنهض... لتُنهي كل شيء."

(نبضات قلبه تتسارع.

كأنّ شيئًا قديمًا يُبعث في عروقه — شيئًا أشدّ من الغضب، أعتى من الألم.)

(التحوّل — بعث الموت)

(في القاعة... هواءٌ باردٌ يندفع فجأة، يطفئ المشاعل لحظاتٍ قصيرة.)

(الجميع يتجمّد.)

(ثم... انفجار هالةٍ داكنة من جسد هيكارو.

هالةٌ كأنها نُسجت من ظلال الموت ذاته.)

(الأرض تتشقق حوله.

صوتٌ غامض — كأنّ لعناتٍ قديمة تُهمس في الحجر.)

(عينا هيكارو تنقلبان إلى سوادٍ مطلق — ظلمةٌ لا قرار لها.)

(يده ترتفع ببطء — السيف يُنتزع من الأرض، يُحلّق نحوه كأنّ قوة خفية تشدّه.)

(يمسك به... وحين يتحرّك — لا يتحرّك كإنسان.)

(خطوته التالية تُكسِر الهواء ذاته — شرخٌ من السواد يمتدّ في الفراغ.)

(مجزرة الهلاك)

(ضربةٌ أولى — رأسٌ يُقتلع، دمه يتبخّر قبل أن يمسّ الأرض.)

(ضربةٌ ثانية — ذراعٌ تُبتر، صراخٌ مكتومٌ يخنق الفضاء.)

(هيكارو يتحرّك بلا صوت، بلا رحمة، كطيفٍ يُقطّع أجسادهم كأنّما يشقّ قدرهم نفسه.)

غينشو (يصرخ):

"أوقفوه... أيها الحمقى!!"

(لكن الرجال يتراجعون — يرتجفون — بعضهم يسقط دون قتال، وبعضهم يُزهَق بلمسة واحدة من سيف هيكارو.)

(كيوجي، ينهضُ مترنّحًا... يرى الفوضى — يرى هيكارو... أو ما تبقّى منه.)

(نداء اليأس)

(يكاد يفقد الأمل... لكنه يصرخ، يمزّق سكون القاعة):

كيوجي (بصوتٍ مدمّى بالرجاء):

"هيكارو... كفى... أرجوك... عُد إلي... أنت لست هذا... أنت صديقي... أنت أخي!"

(يخطو، رغم الألم، رغم الكسور.)

(يصل إليه... يلمس كتفه — ظلالٌ باردة ترتجف حولهما.)

كيوجي (يبكي همسًا):

"لا تتركني... لا أُريدُك هكذا..."

(هالة الظلام ترتعش — كأنّ صوت كيوجي ينفذ إلى أعماق روح هيكارو.)

(صرخةٌ مكتومة تشقّ كيانه — الجسدُ يرتجف بعنفٍ، ثم يسقط أرضًا، بلا حراك.)

(كيوجي يُمسكه بين ذراعيه، يرتجف، يهمس ببكاءٍ:

"ما زلتُ هنا... معك... لن أدعهم يأخذونك.")

(نهائي — المشهد الأخير)

(صمتٌ ثقيلٌ يسود القاعة.)

(الجثث تلطّخ الأرض.

الدم يغمر الحجارة السوداء كأنه ختمُ لعناتٍ أبدية.)

(عند العرش... يقف غينشو ببطء.)

(يمرر أصبعه في بركة دمٍ دافئ، يرسم به رمزًا معقّدًا على ذراعه.)

(يهمس، عينيه تتوهّجان بنذرٍ داكن):

غينشو (بصوتٍ خافت):

"حسنًا... يا ابن الرماد...

لُعبتنا لم تبدأ بعد."

(الظلال تُطوّق العرش...

المشهد يُغلق.)

الفصل 

صوت الجد (بحنان عميق):

"هيكارو... لا تخف. في قلب الظلام، يولد النور، فقط لمن يمتلك الشجاعة ليبحث عنه."

(تنبثق صورة القرية وسط الظلمة، ألسنة اللهب تلتهم البيوت، لكن بين الرماد تنبُت زهور بيضاء، تشعّ بضوء هادئ، كأنها تنبض بالحياة.)

(يظهر هيكارو الطفل، واقفًا بين تلك الزهور، يحدّق في الأفق الملبد، حيث تلوح ظلال ضبابية لأحبّته — يبتسمون له بهدوء، بعينين مليئتين بالطمأنينة.)

هيكارو الصغير (بصوت مكسور):

"هل سأتمكن من حمايتهم...؟ هل هناك نهاية لهذا الألم؟"

صوت آخر — دافئ، غامض، كأنّه يتحدث من داخله:

"الطريق لن يكون سهلًا، لكنه لك وحدك. كل خطوة تخطوها، تزرع بذرة أمل. لا تدع الظلام يُطفئ نورك."

(يتحوّل المشهد إلى نهر صافٍ يعكس نور القمر. المياه تتدفق ببطء، تحمل في طيّاتها صورًا متداخلة — ماضٍ، حاضر، ومستقبل. النهر يدعو، لا يأمر. يترك له الخيار.)

(الضوء يخفت، النجوم تذوب في العتمة. يشعر هيكارو بيد دافئة تمتد نحوه، تحمله بلطف بعيدًا عن كل ما يؤلمه.)

الاستيقاظ:

(يفتح عينيه ببطء. ضوء ناعم يتسلل من نافذة حجرية صغيرة، كأن صدى الحلم ما زال يرفرف حوله.

يتنفس بعمق. رائحة العشب الرطب والدخان العالق في الهواء تملأ صدره.)

(يجد نفسه على سرير خشبي بسيط. الجدران من حجر بارد، والغرفة صغيرة، صامتة.

يرتجف. يحاول تحريك يديه — الألم موجود، لكن خفيف، كأن جسده يذكره بأنه ما زال حيًا.)

(هيكارو ينهض ببطء، جسده مثقل كأنه خرج من أعماق بحرٍ مظلم. يمرر يده على جبينه المتعرق، يحاول أن يجمع شتات الحلم… أو الذكرى؟)

(باب الغرفة يُفتح بهدوء، يدخل كيوجي، عيناه مجهدتان من السهر، لكن حين يرى هيكارو مستيقظًا، تتسع ملامحه بارتياح لا يوصف.)

كيوجي (بهمس مفعم بالدهشة والفرح):

"أنت... عدت."

(يحاول هيكارو التحدث، لكن صوته يخونه، فيومئ برأسه، نظراته تبحث في عيني كيوجي عن إجابات.)

كيوجي (يقترب، يجلس قرب السرير):

"لقد كنت... بعيدًا جدًّا، كأنك لست أنت. ظننت أنني فقدتك إلى الأبد."

(يصمت لوهلة، يحدّق في الأرض ثم يرفع نظره مجددًا.)

كيوجي:

"ذلك الشيء بداخلك... الظل... لقد أخذك بالكامل. كنت مثل العاصفة، لا شيء يستطيع إيقافك."

(هيكارو يغلق عينيه، كأن الكلمات تضربه في عمق قلبه. تمر لحظة ثقيلة، ثم يتكلم بصوت خافت، مكسور.)

هيكارو:

"رأيتهم... كل من فقدتهم... رأيتهم في الظلام، وكانوا... يبتسمون."

(يتوقف، يأخذ نفسًا عميقًا.)

هيكارو:

"لكنني لم أستطع لمسهم. لم أستطع البقاء معهم."

(كيوجي ينظر إليه بحنان، يضع يده على كتفه.)

كيوجي:

"ربما لأنك ما زلت تنتمي إلى هذا العالم، هيكارو. لأن الضوء لم يتركك بعد."

(هيكارو يفتح عينيه، لمعة خافتة تظهر فيها — ليست لمعة الظلام، بل شيء مختلف... أمل؟)

هيكارو (بهمس):

"أخشى أن أعود لذلك المكان مجددًا… أن أفقد نفسي."

كيوجي (بحزم دافئ):

"لن تكون وحدك. هذه المرة، سأبقى إلى جانبك... مهما حدث."

(يصمتان. الخارج يظل صامتًا، كأن العالم يحبس أنفاسه، منتظرًا خطوته القادمة.)

(ثم، فجأة، يشيح كيوجي ببصره، يتردد، لكنّه ينطق أخيرًا بصوت خافت، يحمل ثقلًا غامضًا.)

كيوجي:

"هيكارو... واحدٌ منهم ما زال حيًّا. قبضت عليه… واحتجزته."

(تتسع عينا هيكارو، تتغير ملامحه كأن شرارة قد اشتعلت بداخله فجأة.)

هيكارو (بعجلة، بلهجة حادة):

"أين هو؟!"

كيوجي (بهدوء، محاولًا تهدئة التوتر):

"في مكان آمن، بعيد عن أعين الناس. لم أُرد أن يعرف أحد... لم أُرد أن تنهار الأمور قبل أوانها."

(يقف هيكارو، متألمًا لكن جسده يفيض بإصرار، يستند على الحائط ليثبّت توازنه.)

هيكارو:

"خذني إليه... الآن."

(كيوجي يومئ دون كلام، يفتح الباب ويقوده إلى الخارج.)

– الطريق إلى المكان السري –

(يمشي الاثنان عبر ممرات ضيقة داخل القلعة، جدرانها تشهد على سنين من الأسرار والظلال. خطوات أقدامهما تتردد في الفراغ بصدى بارد.)

كيوجي (بصوت خافت):

"اسمه… كايدو. كان أحد قادة الهجوم. رأيته يقف فوق جثث الأبرياء... بلا تردّد، بلا ندم."

(هيكارو لا يرد، لكن قبضته تشتد على مقبض سيفه. وجهه لا يُظهر شيئًا، لكن عينيه تغليان.)

(يصلا إلى باب حديدي مخفي خلف ستارة حجرية. كيوجي يخرج مفتاحًا من قلادة حول عنقه، ويفتح القفل بصوت معدني ثقيل.)

– داخل الزنزانة –

(الغرفة مظلمة، الجدران مبلّلة، رائحة الصدأ والرطوبة تخنق الأنفاس. تتدلى سلاسل من السقف، وفي الزاوية… رجل مقيّد، وجهه ملوث، شعره أشعث، لكن عينيه تلمعان بدهاءٍ مكشوف.)

(يرفع رأسه ببطء، وحين يرى هيكارو، تتلاشى ابتسامته. يهمس بصوت يرتجف، كأنّه يواجه نهايته.)

كايدو (بذعر حقيقي):

"أنت... لا، أبعده عني، أرجوك…"

(هيكارو يتقدم، خطواته بطيئة، لكنها تحمل ثقل سنوات من الألم.)

هيكارو (بصوت خافت ومليء بالغضب):

"لماذا؟ لماذا أحرقتُم قريتي؟"

(كايدو يرتجف، يحاول التماس الرحمة.)

كايدو:

"لم يكن... لم يكن قرارنا. كانت أوامر الزعيم. نحن فقط... نُفّذنا ما قيل لنا."

(هيكارو يقترب أكثر، لكن كيوجي يضع يده على كتفه، يوقفه بحذر.)

كيوجي:

"دعه يتكلم. نحتاج الحقيقة… لا الانتقام الآن."

(كايدو يُخفض نظره، يتنفس بصعوبة، ثم يهمس وكأنّه يعترف بسر خطير.)

كايدو:

"سمعت الزعيم يتحدث… كان يقول إن هناك كنزًا أسطوريًا في تلك القرية… شيء قديم…."

(هيكارو يتراجع خطوة، الصدمة ترتسم على وجهه، لكنه لا ينبس بكلمة. المشاهد في ذاكرته تتقاطع: النيران، صرخات الأطفال، الزهور البيضاء وسط الرماد.)

(كايدو يرفع رأسه قليلًا، صوته متهدج، مستجدٍ.)

كايدو:

"هذا كل ما أعرفه… أقسم لك… لا تقتلني… أرجوك…"

(يصمت هيكارو، أنفاسه ثقيلة، ووجهه لا يُقرأ. بين يده ونصل سيفه قرارٌ... ليس بالقتل، بل بالاختيار.)

(تمر لحظة طويلة. ثم يلتفت إلى كيوجي، عينيه لا تزالان معلّقتين على الماضي.)

هيكارو (بصوت خافت):

"علينا أن نعرف ما هو هذا الكنز…."

(غادرا الزنزانة في صمتٍ ثقيل. لا كلمات، فقط وقع الأقدام ووشوشة الريح الباردة وهي تمرّ عبر أروقة القلعة، كأنها تهمس بأشياء لا تُقال في الضوء.)

كيوجي (من دون أن يلتفت):

"هل أنت متأكد؟ العودة إلى هناك ليست طريقًا إلى الشفاء... بل إلى جراح أعمق."

هيكارو (عينيه معلقتان بالأفق):

"الجراح لا تنزف حين نعود… بل حين نكذب على أنفسنا أنها شُفيت."

(يسلكان دربًا منسيًا نحو الأطلال. الأشجار تتمايل مع ريحٍ رمادية، كأنها تحرس مكانًا مات فيه النور.)

– عند أطلال القرية –

(القرية لا تزال كما في الذاكرة… ولكنها لم تعد لها.

جدرانها المتفحمة لم تنهَر تمامًا، بل صمدت كأنها تصرّ على أن تبقى شاهدة على الجريمة.)

(كل شيء مشبع برائحة الاحتراق… لكن الأشدّ إيلامًا هو الصمت.)

(هيكارو يسير ببطء وسط الركام، وكأن الأرض تحاول منعه من المتابعة.

كل حجر، كل شظية خشب، تُناديه باسمه القديم.)

(يتوقف عند جذع شجرة مشمش محترقة.)

هيكارو (بهمس خافت):

"هنا… كانت تزرع الزهور البيضاء."

(يضع راحته على الجذع المتفحّم — وتمرّ الذكرى كطعنة:

ضحك، دفء، يد الجدّة، ثم صراخٌ مفاجئ… ووميض ناري يمحو كل شيء.)

(يركع، يلمس الرماد براحة يده — فلا يشعر ببرودة… بل بحرارة بكاء لم يُذرف بعد.)

كيوجي (صوته يتردد في الخراب):

"كأنّ شيئًا هنا… لا يزال يفتح عينيه."

هيكارو (ينهض ببطء، يحدّق غربًا):

"هناك… خلف التل. كانوا يمنعوني من الاقتراب. قالوا: تلك الأرض لا تخصّنا."

كيوجي:

"أو أنهم أرادوا ألا تُفتح البوابة قبل أوانها."

– إلى الأرض المحرّمة –

(يتسلقان التل. الأشجار تصبح أكثر التواءً، والهواء أثقل — ليس كثيفًا، بل حيًّا… كأنّه يراقب.)

(عند حافة الغابة، تظهر فوهة كهفٍ عظيمة — كفمٍ مفترس ينتظر اسمه.)

(هيكارو يدخل أول خطوة… والأرض تحت قدميه ترتجف.)

– داخل الكهف –

(الظلام كثيف، لكنه ليس بلا حياة. الجدران تنبض بضوء أزرق مائل للرمادي — كأنّها شرايين لمخلوق نائم.)

(همسات تتسرب من كل مكان… لا تُقال بل تُبثُّ داخل الرأس. كلمات بلغة لا تُترجم، لكنها تُفهم.)

(في قلب الكهف — سيف قديم يرقد فوق منصة من حجر أسود.

مغطى بطبقة رماد سميك، وغمده يحمل رموزًا منحنية، كأنّها تكتب اسمًا لا يجب نطقه.)

كيوجي (متراجعًا، يهمس):

"هذا… لا يُشبه سيفًا… بل شاهد قبر."

هيكارو (يتقدّم، عينيه تتسعان):

"بل هو وصيّة… ما زالت تنتظر قارئها."

(حين تلمس أصابعه المقبض… الرؤيا تبدأ.)

– الرؤيا: محكمة السيف

(الظلام. ثم ضوء. لا تدري أين تبدأ الرؤيا ولا متى تنتهي.)

(هيكارو يجد نفسه واقفًا فوق سهل ممتد، مغطى بجثث المخلوقات.

السماء حمراء، الأرض مشققة… والدم يتبخر بدلًا من أن يسيل.)

(في مركز السهل — رجل ذو شعر أحمر مشتعل يقف وسط اللهب.

لا درع، لا تاج. فقط عباءة رمادية، تتلوى حوله كأنها تتنفّس.)

(يحمل السيف ذاته، لكنه لا يبدو سيفًا بعد الآن. بل مخلوقًا حيًا — يصرخ من كل شق، ينبض في يده.)

(كل ما حوله راكع: التنانين، الكهنة، الأشباح، حتى الموتى.)

(الرجل يفتح عينيه — ينظر إلى هيكارو مباشرة. يبتسم.

لكن تلك الابتسامة ليست ترحيبًا… بل تقييمًا.)

(ثم يتكلم. صوته لا يُسمع بالأذن، بل يُنقش داخل الدم.)

الرجل:

"إن كنت لا تعرف لماذا تم اختيارك… فانسحب.

السيف لا يُحبّ المتردّدين."

(ثم ينشقّ العالم فجأة.

هيكارو يُسحب إلى العدم — وهناك، في السواد المطلق، السيف نفسه ينتصب أمامه.)

صوتٌ بلا جسد (السيف):

"أعطني جزءًا من روحك… وخذني.

ارفضني… وسأنسج لعناتي عليك."

(لحظة صمت. العالم يتوقّف.

هيكارو، وسط العدم، يرى صورًا خاطفة:

كيوجي ميتًا. قريته تُحرق من جديد. نفسه — يختنق على ركبتيه، بلا سيف.)

(يهمس، دون صوت:)

"إن كان عليّ أن أحمل النهاية… فلتكن النهاية لي."

(يمد يده. يُمسك بالسيف.

صرخة تملأ الفراغ.)

– الاستيقاظ –

(يعود إلى وعيه… مُتعرّقًا، مرتجفًا.)

(السيف لا يزال في يده. لكن لم يعد صامتًا.

خُطوط حمراء تومض على غمده… وفي معصمه، رمز يشبه شعلة تنقسم إلى عين.)

كيوجي (مذعورًا):

"هيكارو… يدك… إنها تنزف نورًا!"

هيكارو (بصوتٍ غريب… كأنّ أحدًا يتحدث معه من الداخل):

"رأيته… الرجل ذو الشعر الأحمر.

هو من حمل السيف قبلي…

وكان كل شيء يركع له — حتى السيف نفسه."

(ينظر إلى الرمز المتوهج على جلده. العين تُفتح… وتنظر إلى كيوجي.

ثم تُغلق.)

– عند حدود القرية –

(يقف عند العتبة الأخيرة… والهواء من حوله كأنّه ينتظر منه أن يقرر.)

(الرياح تمرّ، وتحمل رماد الذكريات.

يرى أطياف الراحلين — جدّه، جدّته، الأطفال.

كلهم ينظرون بصمت… لا حزن، لا رضا… فقط سؤال.)

(هيكارو يهمس، كأنّه يجيبهم جميعًا:)

"سأكون من يُنهي اللعبة… أو من تُنهيه."

(يلتفت إلى كيوجي. لا يحتاج إلى قول شيء.

السيف على ظهره… والرماد تحته.)

(وفي الأطلال…

زوج من العيون — سوداء كلون العدم — تُفتح بهدوء…

ثم تختفي.)

الفصل 

You sent

(عند الغروب — المدينة تستقبل الليل بلون الدم والذهب. هواءها مشبع بما لا يُقال… همسات تُحاك في الأزقة. عيون تراقب من خلف الشِبابيك.)

(هيكارو وكيوجي يعبران البوابة بصمت — لا يبدوان عائدين من معركة، بل كأنهما عائدان من زمن آخر.)

(في السوق:)

عجوز (صوتها يكاد يختفي وسط هدير الخوف):

"سمعت... أن النار نفسها رفضت لمسهم. من أبادهم كان شيئًا آخر."

شاب (يرد بلهاث كمن يروي كابوساً):

"قالوا إن ظلاً بسيفٍ لا يعكس الضوء... شقَّ الليل ذاته."

امرأة (همس مرتجف):

"هناك من رآه — لم يمشِ... بل كأن الأرض تُفسح له الطريق."

(يمرّ هيكارو وسطهم. لا ينظر، لا يسمع. لكنّ صدى الكلمات يرافقه كظلّ آخر.)

(كيوجي يُراقب — حاجباه معقودان، كمن يشعر بأن شيئًا أكبر قد بدأ… وأن الريح تحمل أكثر من مجرد رماد.)

– في ساحة الحراسة –

(قاعة باردة، الجدران تُغلق عليها أصوات الذين خانوا العدالة.)

(يُسلم كيوجي كايدو إلى الحراس. نظرة كايدو… ليست نظرة مقاتل منهزم، بل نظرة من رأى ما لا يجب أن يُرى.)

كيوجي (نبرة صلبة، بلا رحمة):

"ليس قائداً… بل من أشعل الجحيم في هانازورا."

الحارس (يُحدّق بكايدو بتوجس):

"سنرى... إن بقي فيه ما يكفي ليمثل أمام العدالة."

(كيوجي يلتفت إلى هيكارو... يريد أن يسأل، يريد أن يفهم — لكنه يرى في عينيه جواباً واحداً: ليس الآن.)

– عند بوابة المدينة –

(الليل يستقرّ كوشاحٍ أسود على الأفق.

هيكارو وكيوجي على تلة تُطل على المدينة — لكن نظرهما ليس إلى ما تحت، بل إلى ما خلف الأفق.)

هيكارو (صوته يحمل برد الشمال القادم):

"السيف… هو مفتاح. لكن القفل في الشمال. في كاليا… حيث تُصاغ الحقيقة أو تُدفن."

كيوجي (نبرة عميقة):

"سمعت عن كاليا... ليست مجرد مملكة عادية."

"إنها إمبراطورية القارة. سيوفها تطال من البحر إلى الجبال، وقوانينها تسري حتى في الظلال."

(يصمت لحظة، ينظر إلى هيكارو.)

"لكن تحت قوتها… تكمن أسرار أعمق من الحديد والنار. هناك… قد نجد من يكشف لنا الحقيقة — أو من يريد أن تُدفن إلى الأبد."– في أقصى الشمال: كاليا –

(شرفة عالية تُطلّ على قصرٍ يلتهمه الضباب. رجلٌ يرتدي رداءً كأنّه حيّ — أسود يُبدي عُمقاً أكثر من الليل ذاته.

شعره الأسود يلمع تحت القمر — لكن عينيه... بلا لون.)

(يحطّ طائر أسود صغير على كفّه. حول عنقه حلقة معدنية قديمة — ليست زينة… بل ختم.)

(الرجل يتفحّص الطائر… يبتسم، لا بفرح، بل بشيء أقدم من الزمن.)

الرجل (همس كمن يقرأ سِفْر نُبوءة):

"الريح تغيّرت… واللاعب الذي نُسيَ… عاد إلى رقعة الشطرنج."

(عيناه تتجهان إلى الأفق — لا ليرى، بل ليستدعي.)

"ليُجرّب... إن كان سيفتح الأبواب التي جُعلَت بلا مفاتيح."

(يرفع يده — يحرّر الطائر… يطير في سماء رمادية، تعود خطواته إلى الداخل. قبل أن يُغلق الباب، يهمس — ليس للهواء، بل لمن يسمع خلف الحجب:)

"عد إذن، يا وريث الظل… لم أعلم أنك ستُصغي إلى النداء بعد هذا الغياب.

الفصل 

– على طريق الشمال –

(يمشي هيكارو وكيوجي في درب ترابي يحيط به الغابات والسهول، والطريق متعرج وسط الطبيعة البرية.)

(بعد أيام من السفر، تصل القافلة إلى قرية صغيرة مهجورة نوعًا ما، تحيط بها الجبال من جهة، والغابات من جهة أخرى.)

كيوجي:

"هنا… هذه القرية ستساعدنا في الاستراحة، وربما نجد من يعرف شيئًا عن الإمبراطورية وأسرارها."

(يبدأان بالتجوال بين بيوت القرية القديمة، حيث الأجواء هادئة لكنها تحمل شيئًا من الغموض، وبضع وجوه من القرويين يراقبان بحذر.)

يرى كيوجي وهيكارو مقهى ويقرران ان يدخلاه

– داخل المقهى القديم –

(هيكارو وكيوجي يدخلان المقهى بعد نهار طويل من السفر، الجو بارد والقرية تبدو هادئة، لكن همسات القرويين تخبر بقصة مختلفة.)

(يجلسان بهدوء، وعيناهما تلتقطان الكلام الذي يتناوله القرويون بقلق.)

قروي 1 (بصوت منخفض):

"في الليالي الأخيرة، الوحوش بدأت تظهر مجددًا… تهاجم الناس في الحقول وعلى الطرقات. لم يبقَ أحد يخرج بعد الغروب."

قروي 2 (بخوف):

"سمعتُ أن أحدهم اختفى بالكامل، والدماء كانت في كل مكان… لم نر مثل هذا منذ سنوات."

(هيكارو ينظر إلى كيوجي بحذر، كيوجي يهمس:)

كيوجي:

"يبدو أننا سنضطر للبقاء هنا عدة أيام… نحتاج أن نستجمع قوتنا قبل أن نواصل رحلتنا شمالًا."

(هيكارو يومئ، عينيه تلمعان بالعزم.)

هيكارو:

"الراحة مهمة، لكن علينا أن نبقى مستعدين لأي خطر."

(بعد أن سمع القرويون كلام هيكارو وكيوجي، تعالت الأصوات بين الحذر والتردد. بعضهم ينظر إليهما بعينين مشككتين، وآخرون يبدون اهتمامًا وحذرًا.)

قروي مسن (بقلق):

"أنتم من المدينة، لكن هذه الأرض ليست كما تعرفونها. الوحوش التي تحوم في الليل ليست كأي مخلوقات عادية. بعضهم يقولون إنهم مرتبطون بقوى قديمة… لا يمكن لأي إنسان عادي مواجهتهم."

(تتقدم امرأة شابة، تنظر إلى هيكارو بحذر لكنها تحمل بعض الأمل.)

المرأة:

"إذا كنتم تخططون للبقاء، فكونوا حذرين. الليل هنا قاتم، والوحوش لا ترحم."

(كيوجي يبتسم بابتسامة نصف مطمئنة.)

كيوجي:

"لن نكون وحدنا، سنتخذ حراسة ونبقى متيقظين طوال الوقت."

(هيكارو يضيف بصوت هادئ وثابت.)

هيكارو:

"هذه القرية لن تكون مجرد مكان للراحة. سنحميها، كما سنحمي أنفسنا."

– ليلة أولى في القرية –

(الظلام يسقط على القرية بهدوء، إلا أن القلق لا يغيب عن قلوب القرويين وهيكارو وكيوجي. نار المخيم تتلألأ في وسط الساحة، والقرية تبدو ساكنة، لكنها مليئة بالأصوات الغريبة من بعيد.)

(هيكارو وكيوجي يتناوبان على الحراسة، عيونهما ترصد كل حركة، وأي صوت يُثير توتراً لا يُحتمل.)

كيوجي (بهمس):

"الوحوش لن تتركنا بسلام. علينا أن نكون جاهزين لأي هجوم."

هيكارو (بصوت منخفض، مركّز):

"هذه ليست معركة عادية… شيء أعمق يحدث هنا. السيف، الرجل ذو الشعر الأحمر، وأسرار عائلتي… كلها مرتبطة بهذا المكان."

(فجأة، يُسمع صوت صرير قوي من خارج القرية، وصرخات مختلطة مع زئير مخيف. أهل القرية يستيقظون مذعورين، والجميع يهرعون إلى نقاط الحراسة.)

قروي (مذعور):

"ها هم! لقد عادوا!"

(هيكارو يمسك بسيفه بقوة، يلتفت نحو كيوجي، ونظراتهما تتبادل العزم والاستعداد.)

– المواجهة مع الوحوش –

(هيكارو وكيوجي يخرجان من وسط القرية باتجاه مصدر الصوت، أجواء الليل مظلمة والهواء مشبع برائحة التراب والرطوبة.)

(فجأة، تبرز من بين الأشجار مجموعة من الوحوش المرعبة، أشكالها مختلفة لكن كلها مرعبة وقوية.)

الوحوش:

وحش ضخم يشبه الدب، جلده مغطى بقشور داكنة كالصخر، عيونه تتوهج باللون الأصفر الدموي، مخالب طويلة كالحديد تنقر الأرض عند تحركه.

وحوش أخرى أصغر حجماً، تشبه الذئاب لكن أجسامها مشوهة ومغطاة بشعر أسود ممزوج بحراشف لامعة، تعوي بصوت حاد يملأ الغابة رهبة.

وحش جناحي، يمتلك أجنحة جلدية ممزقة، يطير ويهاجم من الأعلى، ينقض كالسهام على فرائسها.

(هيكارو يوجه ضربات حاسمة بسيفه، لكن الوحوش كثيرة وقوية. كيوجي يدعم بهجمات سريعة ومهارة قتالية عالية.)

كيوجي (صراخ):

"هيكارو! انتبه من جناح الطائر!"

(وحش الجناح يهاجم، يجرح هيكارو على ذراعه، يصرخ من الألم لكنه يواصل القتال.)

(في لحظة حاسمة، الوحش الأكبر، الدب القشري، يهاجم بقوة مدمرة، يطاح بسيف هيكارو من يده، ويسقط على الأرض متألماً.)

(الوحش يتقدم لشن الهجوم القاتل، لكن فجأة يتراجع ببطء، وكأنه يقرر الانسحاب بعد أن تسبب ببعض الجراح.)

(يختفي الوحش مع أصدقائه في ظلام الغابة، يترك خلفه صدى زئير مخيف.)

– بعد المعركة –

(هيكارو ينهض بصعوبة، ينظر إلى جرحه في الذراع، ووجهه يحمل ملامح الإحباط.)

هيكارو (بهمس):

"أنا ضعيف… هذه القوة… ليست كافية."

(كيوجي ينظر إليه بجدية، يمسح دماء وجهه، ثم يضع يده على كتفه.)

كيوجي:

"لا بأس، هذا فقط بداية الطريق. إذا أردنا مواجهة هذا الشر، علينا أن نصبح أقوى."

(ينظران حولهما إلى القرية التي لم تزل مظلمة وهادئة بعد العاصفة.)

هيكارو (بعزم متجدد):

"سنبقى هنا. سنتدرب، نطور قوتنا. لن نسمح لأي وحش أن يهدد هذه الأرض أو أسرار السيف."

كيوجي:

"رحلتنا طويلة، والقوة هي المفتاح. سنحمي بعضنا، ونصبح أمل القرية."

– بعد مغادرة المقهى –

(خرج هيكارو وكيوجي من المقهى بهدوء، والجو في القرية بات أكثر برودة مع اقتراب الليل. كان الضباب ينساب بين الأزقة كأنّه يهمس بأسرار لا تُقال، والظلال تتمدد على الجدران الطينية مثل أشباح متربّصة.)

كيوجي (بنبرة عملية، وهو يتلفّت حوله):

"حسنًا، هيكارو... دعنا نبحث عن مكان نبيت فيه قبل أن يحلّ الليل تمامًا. لا أظن أن من الحكمة البقاء في الشوارع بعد الغروب، خاصة مع ما سمعناه."

هيكارو (يومئ موافقًا، وعيناه تراقبان الممرات الضيقة):

"كما تقول… لنسأل أحد القرويين عن فندق أو نُزل قريب."

(يسيران ببطء وسط الطريق الرملي، حتى يصادفان رجلاً مسنًا يحمل سلة من الحطب على ظهره. كانت ملامحه تعبّر عن طيبة ممزوجة بالحذر.)

هيكارو (بأدب):

"مرحبًا، سيدي… هل يمكنك مساعدتنا؟ نبحث عن مكان نقيم فيه هذه الليلة."

الرجل (ينظر إليهما برهة، ثم يبتسم بلطف):

"مرحبًا بكما، أيها الغريبان. إن واصلتما السير في هذا الاتجاه قليلاً، ستجدان فندقًا صغيرًا إلى اليسار، لونه بني، لا يُخطئه أحد."

هيكارو (بابتسامة خفيفة):

"شكرًا جزيلًا لك."

(يواصلان السير بحسب ما وصفه الرجل. يلوح لهما في الأفق مبنى قديم ذو طلاء بني باهت، تحيط به نوافذ خشبية، وبعض أجزاء السقف تبدو وكأنها رمّمت مؤخرًا. الفندق مكوّن من طابقين، يعلوهما دخان خفيف يتصاعد من المدخنة، مما يشير إلى دفء ينتظرهما في الداخل.)

(يدفع كيوجي الباب الخشبي الثقيل، ويصدر صريرًا خافتًا، فينفتح على ردهة صغيرة مضاءة بمصابيح زيتية. خلف الطاولة، يجلس شيخ كبير في السن، لحيته رمادية كثيفة، وعيناه تحملان نظرة حكيمة دافئة.)

الشيخ (بابتسامة ترحيبية):

"أهلًا بكما، يا أبناء الطريق. هل تبحثان عن مأوى لليلة؟"

كيوجي (بهدوء، وهو يقترب من المنضدة):

"نعم، نحتاج إلى غرفة نقضي فيها الليل."

الشيخ:

"تبقّت لدينا غرفة واحدة فقط، لكنها نظيفة ودافئة. ستكونان مرتاحَين فيها. السعر عشر قطع فضية."

(دون أن يتردد، يخرج كيوجي كيسًا صغيرًا من عملات الفضة ويضعه أمام الشيخ.)

كيوجي:

"هذا مناسب. شكرًا لك."

(يأخذ الشيخ النقود بلطف، ثم يمسك بمفتاح نحاسي صغير ويتقدمهما عبر ممر ضيق تفوح منه رائحة الخشب العتيق. يقودهما إلى الطابق الثاني، حيث يفتح باب غرفة متواضعة فيها سريران خشبيان، ونافذة تطل على ساحة خلفية صغيرة مكسوة بالعشب.)

الشيخ (وهو يسلم المفتاح):

"هذه غرفتكما. إن احتجتما شيئًا، سأكون في الأسفل. لا تخرجا ليلًا دون سبب، فالظلام هنا ليس كما في المدينة."

(ثم يغلق الباب بهدوء، تاركًا هيكارو وكيوجي في الغرفة.)

(يجلس كل منهما على سرير، يتبادلان نظرة صامتة، تعبر عن التعب والثقة في آن. من خارج النافذة، يمكن سماع نباح كلب بعيد، وصوت الرياح يضرب جدران الفندق القديمة.)

كيوجي (يتمدد على سريره):

"أخيرًا… بعض الراحة."

هيكارو (ينظر إلى السقف الخشبي):

"راحة مؤقتة فقط… الليل لم يبدأ بعد."

(يغمض كلاهما عينيه قليلًا، دون أن يخلعا أسلحته. في هذه القرية، لا يمكن التنبؤ بما سيجلبه الليل.)

– في منتصف الليل –

(كان الصمت يخيّم على القرية، لا يُسمع إلا صوت الرياح وهي تمرّ عبر الأشجار كأنها أنفاس غريبة من عالم آخر. القمر، نصفه مخفي خلف الغيوم، ينثر ضوءًا باهتًا على أسطح المنازل القديمة. داخل الغرفة، هيكارو وكيوجي ينامان نومًا متقطعًا، كل منهما يضع سيفه بجانبه، كأن جسدهما يرفض الاسترخاء الكامل.)

(فجأة، شقّ صراخ حاد ظلمة الليل.)

صوت امرأة (من بعيد، مذعور):

"النجدة! إنهم هنا!!"

(يفتح هيكارو عينيه على الفور، ينهض من فراشه كمن استُدعي من حلم عميق. في اللحظة نفسها، يعتدل كيوجي جالسًا، وقد أمسك مقبض سيفه دون تفكير.)

كيوجي (بصوت منخفض، حذر):

"...هل كان ذلك صراخًا؟"

هيكارو (وهو يفتح النافذة قليلًا):

"نعم… من جهة البوابة."

(يلتقط الاثنان سيوفهما ويندفعان نحو الباب، يفتحانه بسرعة، ثم يهرعان عبر الممر الخشبي المؤدي إلى الطابق الأرضي. الشيخ صاحب الفندق يقف عند العتبة، وجهه شاحب تحت ضوء المصباح.)

الشيخ (بصوت مرتجف):

"إنهم… الوحوش، عادوا مجددًا! عند البوابة الجنوبية!"

(لم ينتظر هيكارو أو كيوجي سماع المزيد، بل اندفعا نحو الخارج، الأحجار تحت أقدامهما تبعث صدى خافتًا مع كل خطوة.)

– عند بوابة القرية –

(عند تخوم القرية، في الساحة المقابلة للبوابة الخشبية العريضة، اشتعلت الفوضى. رجال القرية، بعضهم مسلح برماح قديمة أو فؤوس حطب، يحاولون صدّ مخلوقات تزحف من الظلام. كانت الوحوش شاحبة الجلد، أعينها متوهّجة باللون الأصفر، وأسنانها تتلألأ تحت ضوء القمر، تصدر زئيرًا غريبًا يجمد الدم في العروق.)

(عددهم ليس كبيرًا، لكنهم يتحركون بسرعة، ويمزقون دفاعات القرويين واحدًا تلو الآخر.)

(هيكارو يتوقف على حافة المعركة، عينيه تشتعلان، وسيفه يخرج من غمده بصفيرٍ خافت.)

هيكارو (بغضب مكتوم):

"إذن… هذه هي الكائنات التي تحدثوا عنها."

كيوجي (وهو يشهر سيفه، عينيه تراقبان التحركات):

"إنها ليست مخلوقات طبيعية… تحرّكها طاقة مظلمة."

(يندفع هيكارو بسرعة نحو أقرب وحش، وسيفه يضيء بخفوت وهو يضرب ضربة خاطفة تشقّ الوحش من كتفه إلى صدره. يسقط الكائن أرضًا، يطلق صرخة غليظة قبل أن يتلاشى في بقعة من الظلال.)

(في الجانب الآخر، يواجه كيوجي اثنين دفعة واحدة، يتحرّك بثبات ودقة، يراوغ الهجمات ويضرب بضربات قاطعة في مواضع قاتلة.)

(صراخ القرويين يمتزج بأصوات القتال، ولكن شيئًا ما تغيّر… الوحوش بدأت تتراجع. بعضها يفرّ عائدًا نحو الغابة، كأنها شعرت بتهديد غير مألوف.)

(رجل من القرويين، يحمل رمحًا ملطخًا بالدماء، يصرخ:

"إنهم يهربون!")

(تتوقف الوحوش عند حافة الأشجار، تنظر مرة أخيرة نحو هيكارو، قبل أن تختفي وسط الظلال، كأنها لم تكن.)

(يهبط الصمت فجأة. لم يتبقَ سوى أنفاس متقطعة، ودماء على الأرض، وعيون شاخصة نحو البطلين.)

رجل قروي (بذهول):

"لقد أنقذتمونا…"

(لكن هيكارو لم يُجب. كان ينظر إلى حيث اختفت الوحوش، وشيء في عينيه يزداد تيقنًا.)

هيكارو (بهمس):

"هذه ليست النهاية… بل البداية."

(كيوجي يقترب منه، عينيه متّسعتان وهو يحدّق نحو الأشجار المظلمة.)

كيوجي:

"شعرت بشيء فيهم… طاقة غريبة. كما لو أن أحدهم… كان يراقب من بعيد."

(يصمت الاثنان، بينما يرتجف ضوء القمر فوق الغابة التي ابتلعت الوحوش.)

– بعد المعركة –

(تراجع الوحوش ترك خلفه ساحة معركة تئنّ بصمت… أجساد مرهقة، جراح مفتوحة، ووجوه مذهولة لم تصدق أنها لا تزال حيّة. اشتعلت المشاعل على عجل، لتضيء ما بقي من ليلٍ مُنهك. وسط الدخان ورائحة الدم والتراب، وقف هيكارو وكيوجي يلهثان، سيوفهما تقطر بقايا الظلال.)

(لم تمضِ سوى لحظات حتى اندفع القرويون نحو المصابين، يصرخون بأسماء أحبّائهم، يحاولون إيقاظ من سقطوا، ويضمدون من نجوا.)

(اقترب هيكارو من شاب ممدد قرب الحائط الحجري للبوابة، جرح غائر يمتد على كتفه، وجهه شاحب. دون تردد، ركع بجانبه.)

هيكارو (بهدوء، وهو يمزّق قطعة من ردائه):

"تماسك… سأوقف النزيف."

(كيوجي كذلك أسرع نحو رجل مسنّ فقد وعيه، ساعد امرأة ترتجف وهي تحاول رفعه.)

كيوجي (مطمئنًا):

"ارخي جسده… سأحمله."

(معًا، ساعد الاثنان من استطاعوا، قطعة قماش هنا، ضماد مرتجل هناك، يربتون على أكتاف الخائفين، يشجعون البقية على التماسك. بدا وكأنهما أصبحا جزءًا من القرية، ولو مؤقتًا.)

(حين بدأت الدماء تهدأ، والأنين يقل، اقتربت المرأة الشابة التي تحدثت إليهما في المقهى سابقًا. عيناها مغرورقتان بالدموع، لكنها تبتسم بشكر خافت.)

المرأة (بامتنان):

"لولاكما… لما نجا أحد."

(هيكارو يكتفي بهزّ رأسه، لا يقول شيئًا، لكن التعب بادٍ في ملامحه.)

كيوجي (بلطف):

"ساعدنا بما استطعنا… احرصوا على أن يبقى أحد متيقظًا هذه الليلة."

المرأة:

"سنبقى. وسنذكر هذا اليوم."

(انتهى كل شيء تقريبًا. عاد الصمت، لكن هذه المرة لم يكن ثقيلًا، بل مفعمًا براحة مؤقتة.)

– عودة إلى الفندق –

(عاد هيكارو وكيوجي إلى الفندق وهما يجرّان أقدامهما، ثيابهما ممزقة بعض الشيء، أيديهما ملطخة بدماء ليست كلها من الوحوش.)

(الشيخ كان بانتظارهما عند الباب، وجهه مليء بالقلق، لكنه عندما رآهما سالمَين، تنفّس بارتياح.)

الشيخ (بابتسامة متعبة):

"الحمد لله على سلامتكما… لقد رأيت كل شيء من هنا."

(أومأ له كيوجي، ثم صعدا الدرج ببطء، خطواتهما ثقيلة، لكن في داخلهما رضا خافت.)

(دخلا الغرفة مجددًا، وألقيا بنفسيهما على الفراشين المنفصلين، لا كلمة واحدة تقال، فقط تنهيدة طويلة من كليهما.)

هيكارو (بصوت واهن):

"علينا أن نرتاح… الطريق لا يزال طويلًا."

كيوجي (يغمض عينيه):

"وغدًا… سنعرف إن كانت هذه الليلة مجرد بداية لما هو أسوأ."

(تغلق النافذة على مشهد الغرفة المظلمة، والقمر لا يزال يراقب من بعيد… كأنه ينتظر الفجر.)

– اليوم الثاني في القرية –

(مع شروق الشمس، والضباب يتلاشى ببطء عن أطراف القرية، وقف هيكارو وكيوجي في الساحة الترابية خلف المنازل. في أيديهما سيوف خشبية، وأعينهما تلمع بتصميم لا مكان فيه للهواء البارد.)

كيوجي (يشد قبضته، بابتسامة واثقة):

"تذكر عندما كنت ألهث بعد ثلاث ضربات فقط؟ تلك الأيام انتهت، هيكارو."

هيكارو (يعدّل وقفته، نظرته جدّية):

"جيد… لأنني لم أعد أتساهل مع أحد."

(لحظة صمت… ثم، كشرارة، ينطلق كيوجي أولًا. يهاجم بضربات متتالية، واحدة تلو الأخرى، بخفة وسرعة غير معهودة.)

كيوجي (وهو يهاجم بقوة):

"تعلمت الكثير… وعزيمتي لم تعد هشّة!"

هيكارو (يصد الضربات، ينحني، يلتف):

"أراك تتكلم أكثر من المعتاد…"

(يضرب كيوجي من الجانب، وهيكارو يتراجع نصف خطوة، ثم يرد بضربة عمودية تقطع الهواء بينهما. كيوجي يتفاداها، يلف بجسده ويهاجم من الخلف، لكن هيكارو يتداركها ويقفز للخلف.)

(ترتفع وتيرة القتال. أصوات الخشب تتلاقى كالرعد، وتعلو في الهواء صرخات التركيز.)

كيوجي (يتنفس بسرعة، يتقدم):

"لن أكون ظلًا لك بعد الآن!"

هيكارو (بابتسامة خاطفة):

"أرِني ذلك إذًا!"

(يهجم هيكارو الآن، بسرعة تثير الغبار من الأرض، ضربة من الأعلى، ثم ضربة مفاجئة من الجانب، يُجبر كيوجي على التراجع. لكن كيوجي لا يستسلم — بل يقفز وينفذ ضربة مائلة كادت تُصيب كتف هيكارو.)

هيكارو (يتراجع، يلهث):

"أنت حقًا تغيّرت…"

كيوجي (يضحك وسط المعركة):

"وأنا لم أنتهِ بعد!"

(يضربان بعضهما في الوقت نفسه، يتشابك السيفان الخشبيان في المنتصف، يتقاربان في العيون والأنفاس.)

كيوجي (بصوت منخفض):

"شكراً لأنك دفعتني لأتطور…"

هيكارو (يدفع السيف بقوة):

"وأنا فخور بك."

(لكن فجأة، هيكارو يستغل لحظة تعب بسيطة من كيوجي، يلتف في حركة سريعة من الخلف، ثم يلمس سيفه كتف كيوجي بخفة — ضربة نهائية.)

(كيوجي يتجمّد، ثم يضحك، يسقط على ركبتيه مستسلماً، يرفع يده.)

كيوجي (يبتسم وهو يلهث):

"حسنًا… ما زال أمامي طريق طويل. لكنني لم أكن بهذا القرب من الفوز من قبل."

هيكارو (يمد يده ليساعده على الوقوف):

"بل كنت رائعًا. وسأكون في انتظارك… في الجولة القادمة."

(يتصافحان وسط الساحة، والشمس تعلو، تنثر نورها على التراب الذي غطته آثار أقدامهما، بينما في الهواء، يظلّ صدى السيوف يرنّ كذكرى لبداية قوتهما الحقيقية.)

(ثم… تصفيق ناعم لكن واضح، يكسر الصمت، يأتي من زاوية مظلمة عند سور التدريب.)

(كان لرجل في الخمسينات من عمره، شعره الأشقر المشوب بالرمادي يتطاير مع النسيم، وبشرته تشي بخبرة معارك لا تُحصى. يرتدي درعًا ناصع البياض، غير مرصّع أو فاخر، بل عملي، ثقيل، ويبدو كما لو كان جزءًا من جسده. خطاه ثابتة، وملامحه هادئة، لكن عينيه… تحملان نارًا مطفأة لا تزال تتوهّج.)

الرجل (بصوت واثق ودافئ):

"يا لها من معركة… كان يمكنني سماعها من الطرف الآخر للقرية."

(يرتبك هيكارو، ويضع يده تلقائيًا على مقبض سيفه الخشبي، بينما يهمس كيوجي، متراجعًا قليلاً، عينيه مشدوهتان:)

كيوجي (بهمس):

"لم أشعر بوجوده أبدًا… لا خطوة ولا ظل."

الرجل (يضحك ضحكة قصيرة، غير عدائية):

"اهدآ. لستُ عدوًا… على العكس، أعجبتني روحكما."

(يقترب بهدوء، يقف على مسافة آمنة، ثم يضع يديه خلف ظهره.)

الرجل:

"أنتما لستما مبتدئين… لكنكما لا تزالان في أول السلم. رأيتُ فيكما بذرة شيء نادر… لذلك أردت فقط أن أرى بأنفسي."

(ينظر إلى كيوجي):

"إصرارك جيد… لكن لا تعتمد كثيرًا على دفاعك. خذ الخطوة الأولى أحيانًا."

(ثم ينظر إلى هيكارو، بعمق واضح في عينيه.)

الرجل:

"أما أنت… أنت تحمل سؤالًا لا إجابة له بعد. لكنك ستجدها… إن لم تضعف."

(يصمت لحظة، ثم يدير ظهره بهدوء، ويبدأ بالابتعاد.)

الرجل (بصوت يسمعانه رغم ابتعاده):

"حين يحين الوقت… ربما أمد لكما يدي."

(ثم يتوقف للحظة، ويلتفت نصف التفاتة، ظلاله تكسو وجهه بنصف غامض.)

الرجل (بصوت أعمق، فيه وعد لا يُقال صراحة):

"إلى أن يحين ذلك… لا تموتا."

(ثم يختفي بين أشجار الطريق… كأنه لم يكن هناك أصلًا.)

هيكارو (ينظر إلى كيوجي، متوترًا):

"شعرت وكأننا كنّا في حضرة معلم… أو شيء أكبر."

كيوجي (بصوت هادئ):

"وقد نحتاجه… أقرب مما نعتقد."

الفصل 

– على أطراف القرية، مع غروب الشمس –

(بينما كان هيكارو وكيوجي يتجولان في طرقات القرية، بعد لحظة صفاء عاطفية، لمح الاثنان ظلًا يقف بثبات في أحد زوايا الشارع… ظل بدا وكأنّه لم ينتمِ إلى المشهد من حوله.)

(كان رجلاً نحيف الجسد، يغطّي وجهه برداء أخضر غامق، منقّط بالسواد، أشبه بعباءة مهترئة تخبّئ ملامحه من العالم. رغم فقر مظهره، كانت عينيه تلمعان كأنّ فيهما شيئًا آخر… شيئًا لا يُرى.)

(تقدّم الرجل بخطوات بطيئة، ثم أشار إليهما بإصبعه، وصوته يخرج كهمسٍ سافر من باطن الأرض.)

الرجل الغامض (بصوت خفيض لكنه حاد):

"أنتما… نعم، أنتما… تحملان ظلالًا لا ترى، وخيوطًا من القدر المعقود… أتسمحان لي أن أنظر؟ أن أرى ما لا يُرى؟"

(ينظر كيوجي إلى هيكارو، ثم يبتسم بمكر بسيط.)

كيوجي:

"ما رأيك؟ لنجرب… ليس لدينا ما نخسره، أليس كذلك؟"

هيكارو (بلا مبالاة ظاهرية، لكن بفضول خفي):

"حسنًا… دعنا نرَ ما يخبئه هذا المتشرد العرّاف."

(في تلك اللحظة، يمر رجل عابر بقربهم، يضحك بسخرية وهو يلوّح بيده.)

الرجل المارّ (بسخرية):

"أحمقان! أتظنان أن بائع خرافات في زقاق مظلم يستطيع أن يرى الأقدار؟ أنتما لا تصلحان إلّا للضحك!"

(لم يردّ هيكارو ولا كيوجي. تبادلا نظرة صامتة، ثم تابعا باتجاه الرجل الغامض.)

(عندما اقتربا، رفع الرجل بصره إليهما، وقد بدا في صوته مزيج من الحذر والإثارة.)

الرجل الغامض:

"أنتم لستم من هنا… وجوهكم جديدة، غريبة عن هذه الأرض… ."

كيوجي (ضاحكًا بخفة):

"تحليل دقيق، أيها السيد العرّاف… والآن؟ هل يمكنك قراءة قدرنا كما ادّعيت؟"

الرجل الغامض (بصوت أكثر جدية):

"ربما… لكني لا أقرأ الكلمات، بل أقرأ الأرواح. أعطني يدك."

(يمدّ كيوجي يده دون تردد. الرجل يُمسك بها بكلتا يديه، ويغمض عينيه. لحظات تمر في صمت ثقيل.)

(ثم فجأة… يعقد حاجبيه. جفناه يرتجفان. يفتح عينيه بسرعة، نظرته مليئة بالاضطراب.)

الرجل الغامض (بهمس شبه مبحوح):

"أنت… لا يمكنني أن أرى."

كيوجي (مستغربًا):

"ماذا تقصد؟"

الرجل الغامض (بصوت مضطرب):

"كأنّ جدارًا من الظلام يقف بيني وبين مستقبلك… لا يمكنني اختراقه. هناك شيء يحميك… لا، شخص ما. شخص يحجب قدرك عني… وكأنك محاط بختم، أو لعنة، أو… حماية."

(يرتجف كيوجي للحظة، لكن سرعان ما يخفي ارتباكه بابتسامة.)

كيوجي:

"كلام غريب… لكن، ممتع. شكرًا على المحاولة."

(يلتفت الرجل نحو هيكارو، يمد يده نحوه، وصوته هذه المرة يحمل شيئًا أشبه بالخوف.)

الرجل الغامض:

"والآن… أنت. صاحب العيون السوداء. دعني أرى ما فيك."

(يتردد هيكارو للحظة، ثم يمد يده.)

(يُمسك الرجل بكفّه، يغلق عينيه… لكن هذه المرة، تمر ثوانٍ فقط قبل أن يبدأ جسده بالارتجاف! وجهه يشحب، ثم يخرج دم من زاوية فمه، كأنما طُعن من الداخل.)

(يفتح عينيه صارخًا، صوته يخترق السكون كصرخة من عالمٍ آخر.)

الرجل الغامض (بصرخة مرعبة):

"لا! ليس هذا! هذا… مستحيل! لا يجب أن يُرى! لا يجب…!"

(ينهار الرجل فجأة، جسده يرتطم بالأرض بلا وعي. هرع هيكارو والتقطه قبل أن يسقط تمامًا، عينيه تتسعان، صدره يعلو ويهبط.)

كيوجي (منصدمًا):

"ما الذي… حدث للتو؟!"

هيكارو (بصوت خافت، بينما يحمل جسد الرجل):

"لا أعلم… لكن ما رآه… جعله ينهار."

(يسرعان به إلى الفندق حيث يبيتان، بينما الليل يزداد ظلمة… وداخل تلك الغرفة، ظلّ الرجل فاقدًا للوعي، كأنّه رأى في قلب هيكارو شيئًا لا يجب أن يُرى.)

(وقف هيكارو عند باب الغرفة، كتفاه منحنيتان، وعيناه متسعتان تحدّقان في الفراغ كأنّه فقد طريق العودة إلى نفسه. كان الضوء القادم من الممر ينعكس على وجهه الشاحب، مبرزًا ملامح الحزن والندم واليأس كأنها وُسمت فيه منذ ولادته. يداه ترتجفان، وصدره يعلو ويهبط كمن يوشك على الانفجار.)

(اقترب كيوجي بخطوات بطيئة، صامتًا أولاً، لكنّه ما إن رأى ملامح صديقه تنكسر حتى أدرك أنه لن يصمت أكثر.)

هيكارو (ينفجر صارخًا، كمن يفرغ عمرًا من الكتمان):

"لماذا! لماذا أنا دائمًا السبب في معاناة من حولي؟! فقدتُ جدّي… جدّتي… أصدقائي… والآن؟ رجل مسكين… غريب… ينهار بسببي! لماذا أُجبر على هذا الجحيم؟ لماذا؟!"

(كان صوته يرتد في الجدران كندبة عميقة تتكرر صداها، صدى لا يسمعه أحد غير قلبه.)

(صمت كيوجي لحظة، ثم تقدّم ووضع يده على كتف هيكارو بقوة وثبات.)

كيوجي (بصوت دافئ لكن حازم):

"أيها الأحمق… ما الذي تقوله؟ أنا معك منذ سنوات… عشت معك، قاتلت معك، ضحكت وبكيت معك. هل أصابني ضرر؟ هل غيّرتني إلى الأسوأ؟"

(لم يجب هيكارو… فقط سقط على ركبتيه، وانهمرت دموعه دفعة واحدة، كأنّ الطفل الذي ظلّ محبوسًا في صدره قد عاد أخيرًا إلى السطح. ضمّ كيوجي صديقه إلى صدره، ولم يتكلّم… فقط احتضنه بقوة. وبعد لحظة… بدأ هو الآخر بالبكاء، بصمت.)

(كانا كتفًا لكتف، وقلبًا لقلب، يتقاسمان وجعًا لا يُقال بالكلمات.)

(مرّت دقائق، ثم تنهد كيوجي ببطء، ومسح وجهه بكمّ سترته.)

كيوجي:

"هيكارو… ابقَ هنا معه. سأذهب لأحضر طبيبًا، ربما يستطيع مساعدته."

(هزّ هيكارو رأسه دون أن ينطق، وعيناه لا تزالان معلّقتين بالرجل الغامض الممدد على الفراش.)

--في أروقة الفندق--

(غادر كيوجي الغرفة على عجل، وأغلق الباب خلفه بهدوء، تاركًا هيكارو يجلس بجانب الرجل الغامض الذي لا يزال فاقدًا للوعي. كان قلبه يخفق بسرعة، ليس من الركض، بل من القلق المتصاعد كضباب ثقيل في صدره.)

(هبط الدرج الخشبي القديم بخطى متسارعة، تتردد أصواتها في أرجاء الفندق شبه الخالي، بينما كانت الجدران الحجرية تعكس أصداء توتره. في البهو، جلس الشيخ العجوز – مالك الفندق – بجانب المدفأة، يراقب لهيبها المتراقص بعينين نصف مغمضتين، نافثًا دخان غليونه بتأنٍ كمن لا علاقة له بعجلة هذا العالم.)

(اقترب كيوجي منه، محاولًا السيطرة على اضطرابه، لكن صوته خرج مشوبًا بالاستعجال.)

كيوجي:

"عفوًا، أيها العم… نحتاج إلى طبيب فورًا. أحد النزلاء فقد وعيه بعد نوبة غريبة."

(رفع الشيخ بصره إليه ببطء، وقطّب حاجبيه قليلاً كأنّه يحاول تذكّر من يكون.)

الشيخ (بصوت مبحوح):

"طبيب؟ آه… نعم، هناك واحد. يقطن قريبًا، بعد شارعين فقط من هنا، منزله ذو الباب الأزرق بجانب متجر الأعشاب."

كيوجي:

"هل يمكنني الوصول إليه الآن؟"

الشيخ (ينفث نفسًا طويلًا):

"ستجده مستيقظًا… لا ينام مبكرًا، غريب الأطوار، لكنه يعرف كيف يعيد الأرواح من حافة الانهيار."

(أومأ كيوجي بسرعة دون أن يعلّق، ثم استدار واندفع خارج الفندق، تاركًا خلفه لهيب المدفأة يتموج في عيني الشيخ.)

--في طرقات القرية، نحو منزل الطبيب--

(اندفع كيوجي إلى الخارج، والهواء البارد يصفع وجهه كتحذير غير منطوق. كانت الطرقات مظلمة إلا من بعض المصابيح التي تتأرجح على وقع الرياح، تنثر ظلالاً مشوهة على الأرض. مرّ بجانب بعض المارة الذين رمقوه بنظرات عابرة، ثم أكمل ركضه، متجاوزًا الأزقة الحجرية كأنه يحاول الهرب من فكرة سيئة تراوده أكثر من سعيه لإنقاذ الرجل.)

(بعد دقائق من الركض، وجد الباب الأزرق كما وُصف له. طرقه ثلاث مرات متتالية، ثم فُتح الباب من تلقاء نفسه، وكأنّ البيت كان ينتظر.)

(خرج رجل خمسيني، شعره رمادي كثيف، يضع نظارات دائرية سميكة، ويرتدي معطفًا داكنًا تملأه الجيوب.)

كيوجي:

"أرجوك… لدينا رجل فقد وعيه فجأة. نظرتُه كانت مرعبة… وكأن شيئًا ما حطّم عقله."

(لم يسأل الطبيب كثيرًا، فقط أمسك بحقيبة صغيرة وقال: "دلّني.")

عودة إلى الغرفة

(دخل الطبيب الغرفة، وألقى نظرة سريعة على الرجل الممدد. تحسس نبضه، وفتح جفنه، ثم وضع راحة يده على جبينه برفق.)

الطبيب (بصوت منخفض وهو يفحص):

"لا جرح… لا تسمم… لكن قلبه في فوضى، عقله صُدم بشيء لم يتحمّله. لا يحدث هذا إلا عند من رأوا ما لا يمكن تفسيره…"

(نظر إلى هيكارو، الذي كان يجلس بصمت قرب الرجل، ملامحه متصلّبة.)

الطبيب (يتمتم):

"هل حدث شيء قبل انهياره؟ هل… رآك؟"

(لم يجب هيكارو. فقط أدار وجهه نحو النافذة، بينما كان القمر يتسلل نوره إلى داخل الغرفة… كأنّ السماء ذاتها أرادت أن تعرف ما حدث.)

لكن الطبيب لم يُلحّ. بدا وكأنه يعرف أكثر مما يقول، لكنه اختار الصمت، احترامًا للغموض أو خوفًا منه.

قال بصوت هادئ وهو يغلق حقيبته:

"هذا ليس من شأني كي أعلمه… لكن عليكم أن تُبقوا أعينكم عليه حتى الصباح. إن لم يستيقظ، فربما… لن يفعل أبدًا."

ثم نهض، ناظرًا للرجل الممدد نظرة أخيرة، .

خرج الطبيب، وأخذه كيوجي إلى منزله، حيث ودّعه وشكره على مجيئه في هذه الساعة المتأخرة.

لم يعلّق الطبيب، فقط اكتفى بهزة رأس صامتة، واختفى في ظلمة الطريق كما أتى.

– في الغابات التي تحيط بالقرية –

في قلب الظلمة، وسط الأشجار المعقوفة والجذور التي تشبه أذرعًا ملتوية، كان الهواء يحمل رائحة دم قديم وحنين للخراب.

ظهر شخص مشوّش الملامح، جسده نصف بشري ونصف شيء آخر… كأنّه لم يكتمل بعد. عيناه تتوهّجان بضوء كريه، وصوته خرج غليظًا مشوّهًا، وكأنه يُكسر من الداخل قبل أن يصل إلى الخارج.

قال بصوتٍ خافت لكنه مُحمّل بالكراهية:

"أيّها الإخوة… لقد صبرنا كثيرًا. حان وقت التهامهم."

تحرّكت الظلال من حوله… عشرات الكائنات بدأت تظهر من بين الأشجار: أنصاف وجوه، أنياب، عيون حمراء تتلألأ وسط الظلام.

أكمل الكائن كلامه، وهذه المرة كان صوته أكثر وضوحًا، وأكثر توحّشًا:

"غدًا، عند انكسار الليل وطلوع أول شعاع… سنمزق صمتهم… سنُسقط قريتهم كما سقطت قرى من قبلها!"

ارتفعت صيحات الوحوش، لكنها لم تكن صراخًا بشريًا… بل خليطًا من الزئير، والعواء، والضحك المكسور.

الغابة كلها... ارتجّت.

– صبيحة اليوم التالي –

في صباح اليوم الثالث لهما في القرية، خرج هيكارو وكيوجي إلى أطرافها الهادئة. حمل كلٌّ منهما سيفه، وبدآ بالتدريب في الهواء الطلق، حيث الضباب لا يزال يتلاشى بين الأشجار، وأصوات الطيور بالكاد تسمع.

ضرباتٌ، مراوغات، وضحكات خفيفة…

لكن بعد دقائق من التدريب، شعر كيوجي بقلق يتسلل إلى قلبه وقال:

"دعنا نعود... أريد أن أطمئن عليه. ربما... استيقظ."

أومأ هيكارو دون كلام، واتجها سويًا عائدَين نحو الفندق. خطواتهما كانت سريعة، كأنها تحمل أملًا لا يريدان أن يُصاب بخيبة.

فتح كيوجي الباب، ودخل أولًا… ثم اتسعت عيناه فجأة.

قال بصوتٍ شبه صرخة:

"لقد استيقظ! هو لم يمت!"

ابتسم هيكارو بهدوء، لكن لمعت في عينيه لمسة ارتياح نادرة… كأنها خرجت من عمق جرح قديم.

تقدّما نحو الرجل الممدد، والذي كان يجلس الآن متكئًا على الوسادة، يتنفس ببطء، شاحب الوجه، لكن عينيه مفتوحتان. وعندما التقت عيناه بعيني هيكارو…

تغير كل شيء.

الرجل (بصوت مرتعش، كمن علق بين حلم وكابوس):

"أنت... أنت!! من أنت بحق السماء؟! لا... لا تقترب مني!"

(يتراجع هيكارو خطوة إلى الوراء، دون أن ينبس بكلمة.

صمته أثقل من أي تفسير.

كيوجي يقترب، يحاول تهدئة الرجل.)

كيوجي (بصوت هادئ):

"اهدأ... قل لنا ماذا رأيت. نحن لا نفهم ما أصابك."

(الرجل يرتجف. كأن صدى ما رأى لا يزال يشتعل في عينيه.)

الرجل (بصوت بالكاد يُسمع):

"ليس حلماً... ليست رؤيا عابرة... بل سُقِطت في داخلي صورة لا تغادر.

كنتُ هناك... أمامه.

لكن المكان... لم يكن أرضًا معروفة.

سماءٌ بلا نجوم، رمادٌ عالق في الهواء، والريح... لم تكن ريحًا بل أنينٌ لا ينقطع.

كنتَ تمشي... لا كالبشر، بل كمن يحمل عبئًا يئن تحته الزمن نفسه.

الخطوة خلف الخطوة... كل موطئ لك كان يترك أثرًا أسود يلتهم ما حوله."

(يتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم يكمل بعينين متسعتين:)

"أرضٌ تغطيها الأجساد... بعضها بشري، بعضها... كأنها أتت من كوابيس أقدم من التاريخ.

كنت تمرّ بينها... لا تنظر، لا تلتفت.

لكن الأكثر رُعبًا... كان ما صاحبك.

لم تكن مجرد... ظلال.

بل كأن شيئًا خلفك يتنفس.

همسات… أنين... أصوات خافتة تتسلل تحت الجلد.

كأنك تحمل معك صدى أرواحٍ ابتُلعت ولم تجد خلاصها."

(يشهق شهقة عميقة، يكاد صوته ينكسر:)

"ثم... ثم رأيت ما لا يمكن أن يُرى.

جناحان... لا ريش فيهما، بل سُحُب من السواد السائل.

امتدا خلفك... غطّيا الأفق كله.

أي ضوء اقترب... ذاب فيهما كأن الوجود نفسه يرفضهما.

ورأيتك... تنظر إليّ.

تلك النظرة...

لم تكن غضبًا. لم تكن رحمة.

بل كانت كصمت الموت... كأنك صرت صدى لعالم انتهى… وبقي وحده العدم فيك."

(لحظة صمت ثقيلة. أنفاس الجميع بطيئة. الرجل يكاد ينهار، لكنه يهمس أخيرًا، صوته بالكاد يصلهم:)

"ذلك... ما رأيته في قدرك.

ربما هو قادم... ربما هو تحذير.

لكنّني واثق... لو لم تحذر، ستسير نحو تلك النهاية كما يُساق الجليد إلى نهر الموت."

(كيوجي يتبادل نظرة مع هيكارو. هيكارو ما زال صامتًا، لكنه يقبض على سيفه بقوة.)

كيوجي (بصوت نادم):

"لم نرغب أن نُسبب لك هذا الألم. لم نكن نعلم أن قدرتك سترى مثل هذا المشهد."

(ينحني قليلًا.)

"لكننا لسنا ما رأيت بعد."

(هيكارو ينظر للأرض لحظة. عندما يتكلم، صوته كحدّ السيف:)

هيكارو:

"أنا آسف… لما رأيته.

لم أختر هذا الطريق.

لكنني لن أسمح... بأن يُكتب قدري بيد أحد غيري — حتى لو كانت يدي أنا من تحمل القلم."

(يرفع رأسه — نظراته أكثر حدة من أي وقت مضى.)

"إن كان عليّ أن أسير نحو ذلك الجحيم... فسأقاتل في كل خطوة.

ولن أسمح... أن يسقط أحد بسبب ما أحمله."

(الرجل ينظر إليه طويلًا، كأنّه يبحث عن بقايا بشرية في عينيه.

ثم يقف، ينهض رغم الألم.)

الرجل:

"أحيانًا... لا يكون الخطر في العدو، بل في المرآة."

(يتوقف عند الباب، يهمس، وكأن الكلمة ليست له وحده:)

"راقبوا السماء.

حين يبتسم القمر كاملًا في ليلٍ صامت... يبدأ الهدوء الذي يسبق الطوفان."

(يغادر. تُغلق الباب خلفه — ببطء كأنّه يختم على قدرٍ لا يريد أن يُفتح.)

— على السطح —

على سطح الفندق -

(هيكارو يقف وحده، السماء رمادية، الهواء بارد كأنّه يحمل صدى الكلمات الأخيرة.

يسحب سيفه ببطء، يغمض عينيه.

صوت الرجل يتردد في ذهنه: "أحيانًا... لا يكون الخطر في العدو، بل في المرآة.")

(هيكارو يفتح عينيه.

ضربة واحدة في الهواء — لكن ليس كأي ضربة.

تموجٌ خافت، كأنّ الهواء يئن تحت وطأة السيف.

يهمس بينه وبين نفسه —

"لو كُتب لي أن أُصبح وحشاً... سأحرص أن أكون أول من يقتل ذلك الوحش."

(يخفض السيف.

السماء تزداد عمقاً... وكأن شيئًا ما... بدأ يتحرّك.)

More Chapters